موقف الحضارة العربية الإسلامية من قتل اليهود: حادثة سيدني
د. علي عبدالسلام المحارمة
17-12-2025 07:10 PM
أتيحت لي فرصة زيارة سدني عام 2007، والتقيت فيها مع رفاقي بطبيب ناجح بعمله ويعكس أجمل صورة للحضارة العربية الإسلامية أمام المجتمع الأسترالي، هو أردني عربي مسيحي كريم شهم ونبيل؛ الدكتور ناظم عكروش من مدينة الفحيص بالأردن، وقد أخذنا بجولات في سيدني وكانبيرا، وكان من بينها زيارتنا لشاطئ بوندي الشهير في سيدني.
استذكرت تلك الزيارة على هامش حادثة سيدني التي أقدم خلالها رجلان يُدّعى أنهما مسلمين؛ على قتل وجرح العشرات من الحاضرين لتجهيزات عيد الأنوار اليهودي في سيدني، وكان من بينهم يهود، وقد أوقفهما عن الاستمرار في القتل بكل بسالة وشجاعة شاب عربي مسلم أسمه أحمد الأحمد.
وعلى ضوء هذه الحادثة أجد نفسي؛ وأنا المختص في الماجستير والدكتوراه بالتاريخ اليهودي وبالنظام السياسي الإسرائيلي؛ مطالب بتجديد نشر الموقف الحضاري العربي الإسلامي من اليهود والصهيونية وإسرائيل، وهذا الموقف منشور بإسهاب في كتابي: (تصاعد القوى الدينية الإسرائيلية) المنشور عام 2004 في كل من عمان وبيروت.
أولاً: الهوية الحضارية العربية الإسلامية:
الحضارة العربية الإسلامية بناها عرب، وقوميات وأعراق أخرى، مسلمون وغير مسلمين عبر التاريخ كله قبل الإسلام وبعده.
إن هذا المفهوم الشامل يستوعب كافة التنوعات والتباينات المذهبية والعرقية التي كانت دوماً تشكّل مصادر الفتن والحروب والاقتتال الداخلي الذي استنزف موارد وقدرات الأمة عبر العصور، وربما لازال، كما أن هذا المفهوم لا ينغلق على التعريف المذهبي أو الديني في سياق بيان من يحق له الانتماء للحضارة العربية الإسلامية ومن لا يحق له ذلك، وهنا أحيل من أراد الاستزادة حول هذا المفهوم لكتابات المفكر العربي الكبير المرحوم أحمد صدقي الدجاني.
ومن هنا يصبح بإمكاننا أن نستوعب كيفية مساهمة هذه النماذج من غير العرب على سبيل المثال لا الحصر من بين مئات القادة في بناء الموروث الحضاري لهذه الحضارة العظيمة: الكرديان صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي، ومن البربر والأمازيغ طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين، ومن الأتراك محمد الفاتح وسليمان القانوني، ومن السلاجقة والأرمن ألب أرسلان، ومن الهند صاحب تاج محل شهاب الدين شاهجهان خُرَّم، ومن باكستان محمود الغزنوي، ومن أذربيجان شمس الدين إلدِغز، ومن الشيشان الإمام منصور الشيشاني، ومن الشركس الظاهر سيف الدين برقوق، ومن فارس عضد الدولة أبو شجاع، ومن مالي منسا موسى، ناهيك عن آلاف العلماء والمفكرين من غير العرب الذين ساهموا في تجويد هذا البناء الحضاري العربي الإسلامي؛ وفي تقدم البشرية في المجالات كافة.
إن هذه النماذج توضّح لنا أن الحضارة العربية الإسلامية ليست حضارة عرقية للعرب؛ وهي كذلك استوعبت إسهامات عميقة لأتباع ديانات أخرى من غير المسلمين، ومن هذه النماذج الراسخة تجد أن يوحنا الدمشقي ذلك الكاهن المسيحي كان بمثابة المؤسس الأول لنظام الإدارة الحكومية في العهد الأموي الذي يعتبر درة الحضارة العربية الإسلامية وأعظم مراحلها عبر الدهر وعلى الإطلاق.
وفي العصر العباسي، كان ليوحنا بن البطريق الفضل الكبير في ترجمة العديد من أمهات الكتب من السريانية واليونانية إلى العربية، تلك الكتب التي ساهمت في خلق حالة البناء التراكمي للحضارة الإنسانية بحقبها كافة.
كما أنك تكتشف أن أبناء العسال وهم مسيحيون أيضا كانوا أركان إدارة القائد صلاح الدين الأيوبي؛ مثلما كان المهندسان أبو منصور وأبو مشكور أهم من بنى قلاع هذا القائد العظيم.
وفي ذات السياق الحضاري؛ نستطيع أن نفهم إسهامات اليهود الذين كانوا ينتمون للحضارة العربية الإسلامية كمحدد لهويتهم تاريخياً، ومن أبرزهم موسى بن ميمون طبيب صلاح الدين الأيوبي صاحب كتاب "دلالة الحائرين" والذي تضمن فكر وفلسفة الفيلسوف العربي ابن رشد، وكذلك أبو المنى داود بن أبي النصر (كوهين العطار) الذي كتب موسوعة " منهاج العطار" في مصر والشام في القرن الثالث عشر الميلادي، ومثله أبو الفضل بن أبي الفرج اليهودي المتوفي عام 1184م، وفي العصر الحديث يبرز اسم المحامي زكي عريبي الذي كلفّه الزعيم الراحل عبدالناصر بإدارة ملف إلغاء الامتيازات الأجنبية الاستعمارية على مصر.
وحتى في فلسطين، لا زال هنالك يهود حتى اليوم يعرّفون هويتهم بأنهم "يهود عرب فلسطينيون" ويعارضون الصهيونية وقيام إسرائيل على أيدي البشر وليس على يد المسيح المنتظر، إنهم حراس المدينة (ناطوري كارتا) السمرة، والذين كان زعيمهم موسى هيرش وزيرا في حكومة الراحل ياسر عرفات.
وهذا الفهم ينسحب على العديد من يهود البلاد العربية الذين رفضوا الصهيونية واعتزوا بانتمائهم لبلدانهم على الرغم من جهود الصهيونية الضخمة لصهينتهم.
ثانياً: اليهودية والصهيونية وإسرائيل:
تتداخل بمصطلح اليهودية دلالة عرقية لجنس بشري له سماته الفارقة ينتمي لأصل واحد؛ وهو أمر لم يثبت بالمطلق في ظل تواجد يهود الدونما الأوروبيين ويهود الفلاشا الأفارقة مثلاً، وكذلك دلالته الدينية التي شابها الكثير من التباينات بين تياراتها وتنوعاتها التي تصل حد التناقض المطلق وليس مجرد تنوع واختلاف، وهنا نستطيع أن نميّز بين اليهودية الإصلاحية التي تمثّل غالبية اليهود خارج إسرائيل والتي تعترف بكل من يقول عن نفسه أنه يهودي بمجرد اعترافه بذلك؛ وبين اليهودية الأرثوذكسية التي تنغلق على نفسها وترى بأن اليهودي هو ابن اليهودية فقط.
ومن بين تعقيدات هذا المصطلح وتشعباته؛ صاغ المنظور الحضاري العربي الإسلامي لليهود الذين عاشوا في كنف الحضارة العربية الإسلامية بأنهم من أهل الذمة لهم ما للذمي من حقوق، وعليهم ما على الذمي من واجبات، وتلك الصيغة تستوجب الانتماء والهوية المشتركة تحت مظلة الهوية الحضارية الأشمل من الهويات الفرعية جميعها.
أمّا الصهيونية فهي حركة استعمارية استيطانية إحلاليه غربية، ساهم ولا زال يساهم بها يهود وغير يهود، بهدف انتزاع فلسطين من أهلها العرب وبناء كيان لمستعمرين مستوطنين غرباء عنها، وقد استخدمت البعد الديني والقومي والتاريخي لليهودية بالتلفيق والتزوير والتشويه والتشويش، من أجل خدمة الاستعمار الغربي وأهدافه المختلفة.
وبالتالي فإن الصهيونية ليست مرادفة بالمطلق لليهودية، كما أن إسرائيل وفقاَ لهذه النظرة هي الكيان الناجم عن جهود الصهيونية، وليس عن حراك يهودي ديني أو عرقي.
وبموجب هذا الفهم فإن عدائنا اليوم للصهيونية ليس عداءً لعرقٍ أو دين، بل لاستعمار استيطاني همجي إحلالي؛ يسعى للقضاء على أهل البلاد وتشريدهم من وطنهم فلسطين خدمة للاستعمار وغاياته المعلنة والمستترة، وإحلال مجموعات غريبة من البشر محلهم.
إن المفهوم الحضاري العربي الإسلامي يتفهّم ذلك التنوع المثري لمكوناته البشرية الدينية والعرقية، وهو يمتلك الثقة بالهوية الحضارية التي استطاعت عبر آلاف السنين استيعاب وصهر كل تلك التنوعات والتباينات في هوية جامعة تتقبل الشراكة وتنتهج السماحة وتتقبل بالعيش المشترك، لكنه العيش الذي لا يتضمن الخبث والغدر والعداء.
وقد ظهرت داخل إسرائيل، الكيان الصهيوني؛ العديد من الأفكار والحركات والأحزاب التي كانت تعارض الصهيونية، وتتبنى طروحات العيش المشترك مع العرب والمسلمين في فلسطين، وربما أوضح مثال على هذا الطرح الحزب الشيوعي الذي خبى بريقه مع انهيار سور برلين، وكذا الحركات والأحزاب والمفكرين الذين يرون بالصهيونية أكبر خطر على اليهود، منهم عالم الكيمياء في الجامعة العبرية إسرائيل شاحاك، والمحامية الإسرائيلية الألمانية فيليتسيا لنغر التي لطالما ترافعت دفاعا عن حقوق الفلسطينيين وقضيتهم، وحاليا عضو الكنيست عوفر كسيف من الجبهة الديموقراطية للمساواة والسلام، والذي أيد اتهام جنوب أفريقيا لإسرائيل بأنها تشن حرب إبادة على الفلسطينيين.
ناهيك عن أحزاب الحريدييم المتدينين الذين لا يعترفون بإسرائيل التي تقوم على أيدي البشر وليس على يد عيسى المنتظر، والكثير من هذا النمط المعادي للصهيونية بمواقف يهود في إسرائيل.
ثالثاً: موقف الحضارة العربية الإسلامية من قتل اليهود:
إن موقف الحضارة العربية الإسلامية واضح برفض قتل أي إنسان طفل أو امرأة أو كبير في السن، بصرف النظر عن دينه وعرقه ومعتقده، وهي بالقطع حضارة بناء ورقي وعمران وليست حضارة قتل عشوائي وتخلّف وإرهاب كما يسعى العدو لوصفها.
وفي سياق القتال فإن هنالك منظومة متكاملة لأحكام القتل والقتال في أحكام الشرع وتعريفه للدفاع عن الذات ومحاربة العدوان وأحكام الجهاد.
إن قتال جيش الاحتلال ومحاربته في سياق قرار السلطان وتحت راية الدولة الشرعية هو حق وواجب لا لبس فيه، لا سيّما في الأراضي والأقاليم الواقعة تحت الاحتلال حتى زواله النهائي.
وبعيداً عن أي لبس في التعريف الديني والشرعي والفقهي، فإن الحضارة العربية الإسلامية لا تبرر بالمطلق ترويع وقتل المسالمين المدنيين في أي مكان وزمان، فما بالك في بلادٍ وأمصارٍ خارج أقاليم الحضارة العربية الإسلامية، لا سيّما وإن كانت أعمال الترويع والقتل تلك قادمة من أفراد ومجموعات وليست تحت راية وجهاد الدولة صاحبة السلطان والقرار، وبالتالي فلا يوجد ما يبرر أو يشرعن قتل مدنيين يهود على بعد أكثر من عشرين ألف كم عن فلسطين.
الصهيونية غارقة بالوحشية والهمجية والإرهاب وقتل الأبرياء، ونحن ندينها بهذه السمات اللاإنسانية ونشجبها صباح مساء، فكيف لنا أن نمارس ما يمارسه العدو الغاشم ونجعله قدوة لنا؟
ثم إن أشرس ما يقوم به الاستعمار الغربي بشكل عام والصهيونية بشكل خاص تجاه الحضارة العربية الإسلامية هو الحملة الهادفة إلى إلصاق تهمة الهمجية والتخلف والإرهاب بها؛ فهل نسعى نحن لخدمة مسعاها بأيدينا؟
ثم إننا مطالبين بالوعي والإدراك العميق لمعرفة خصومنا وأعدائنا: فليس كل يهودي خصم، فهناك يهود كما أسلفنا أعلاه ليسوا صهاينة، وبالتالي ليسوا خصوماً ولا أعداء، وفي كثير من الأحيان وللأسف كان عدونا وخصمنا صهاينة عرب ومسلمين قبل أن يكونوا يهوداً، فمعركتنا وبوصلتنا دون لبس يجب أن تكون للاستعمار، أي للصهيونية وليس لأتباع ديانة أو عرق من البشر.
إن المظهر الحقيقي المشرّف للحضارة العربية الإسلامية قد تجسّد بمعاني الشجاعة والبسالة والإنسانية والإقدام للشاب العربي المسلم أحمد الأحمد حين ضحى بسلامته مقابل إنقاذ أرواح بشر لا يمتون له بأية صلة، وهذا النبل في تعظيم قيمة الحياة لدى هذه الحضارة النبيلة هو ما جعلها تسمو على بقية الحضارات عبر الدهر، وبالتالي فإن مثل هذا المشهد هو الذي يبدد كل مساعي الصهيونية بنعت العرب والمسلمين بالهمجية والتخلف والإرهاب، وهو كفيل بفعل ما عجزت عن فعله آلاف المقالات والمقابلات والكتب في سبيل إبراز الصورة الحقيقية للعربي الشامخ الواثق الواعي والمدرك لواجباته تجاه حضارته وقومه وتجاه كونه إنساناً، وهذا الأمر يعري بشاعة الصهيونية وفظاعة نهجها وخسة وانحطاط أدواتها أمام العالم أجمع.
إن مجابهة ومحاربة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني؛ وهو ذراع للاستعمار الغربي، لا يمكن أن تتم على يد فرد أو عدة أفراد دون تنسيق وانخراط بجهد حضاري عربي إسلامي انساني متكامل، في كافة الميادين العسكرية والتقنية والثقافية والاقتصادية والإعلامية...؛ وبشكل يتبنى الإعداد والتخطيط والتجهيز الشامل، ودون ذلك تبقى كافة هذه الاعمال بمثابة اجتهادات فردية لا تجسّد الموقف الحضاري للحضارة العربية الإسلامية، مثلما أنها تأتي بنتائج عكسية قد تضر ولا تنفع، ولربما أقدم مثل هؤلاء الأفراد دون علم منهم على خدمة الصهيونية ومزاعمها وتلفيقاتها أكثر من خدمتهم لقضيتهم العادلة التي لن تموت.
alimaharmeh@yahoo.com