اللغة العربية: هوية تُصان لا تُستبدل
د. هيفاء ابوغزالة
18-12-2025 12:10 PM
بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف يوم 18 كانون الأول ، نؤكد ان اللغة العربية ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي وعاء الهوية، وحاملة الذاكرة، وجسر التاريخ إلى المستقبل. هي لغة القرآن، ولسان حضارة أسهمت في بناء الفكر الإنساني، وصاغت عبر قرون طويلة ملامح الثقافة العربية والإسلامية، ورافقت الإنسان العربي في العلم والفن والأدب والسياسة.
ومن هنا، فإن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية لا ينبغي أن يقتصر على الطقوس الرمزية والشعارات، بل يجب أن يتحول إلى محطة مراجعة صادقة لما تتعرض له لغتنا اليوم من تشويه وتفكيك مقلق، لا سيما في أوساط الأجيال الجديدة.
لقد أصبح من الواضح أن اللغة العربية تواجه تحدياً حقيقياً يتمثل في انتشار لغة هجينة، خليط مشوه بين العربية والإنجليزية أو غيرها، تُستخدم في الحديث اليومي، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وعلى الدردشة المكتوبه لطلبة المدارس . وحتى داخل بعض البيوت والمدارس.
هذا التشويه لا يُضعف اللغة فحسب، بل يربك الهوية، ويُنتج جيلاً لا يتقن العربية إتقاناً سليماً، ولا يمتلك في الوقت ذاته أدوات رصينة في اللغات الأجنبية التي يستعير مفرداتها.
ورغم تنامي الوعي العربي الرسمي والثقافي بأهمية حماية اللغة العربية، وطرح مبادرات ومشاريع متعددة في هذا الاتجاه، إلا أن المخاوف ما تزال قائمة. وقد عبّرت عنها بوضوح الدعوات التي أطلقت في “حوارات عمّان” للمطالبة باستحداث قانون لحماية اللغة العربية.
ولا شك أن الإطار التشريعي مهم، لكنه يظل غير كافٍ ما لم يُستكمل بأسس عملية، ووسائل تربوية وثقافية، تبدأ من المدرسة والبيت، وتمتد إلى الفضاء العام والإعلام والفضاء الرقمي.
إن حماية اللغة العربية لا تعني الانغلاق أو معاداة اللغات الأجنبية، بل تعني ترسيخ العربية لغةً أولى راسخة في الوجدان والمعرفة، قادرة على التفاعل مع العصر دون أن تفقد نقاءها أو بنيتها. فالمدرسة مطالبة اليوم بتجديد أساليب تعليم العربية، وجعلها لغة حياة لا مادة جامدة، عبر ربطها بالإبداع، والقراءة الحرة، والمسرح، والكتابة، والتقنيات الحديثة، وتدريب المعلمين على تقديمها بروح معاصرة تحترم جمالياتها وتُبرز قدرتها على التعبير عن العالم الحديث.
وفي البيت، تقع مسؤولية لا تقل أهمية على الأسرة، التي تشكّل البيئة الأولى لتشكّل اللسان والوعي. فحديث الأهل مع أبنائهم بلغة عربية سليمة، دون إفراط في إدخال المفردات الأجنبية أو استبدال العربية بلغة أخرى، هو فعل حماية يومي للهوية، وليس مجرد خيار لغوي. كما أن تشجيع القراءة، والاستماع إلى محتوى عربي جيد، وربط اللغة بالحب والدفء لا بالتلقين والعقاب، يُعيد للعربية مكانتها الطبيعية في حياة الطفل.
أما في الحياة العامة والإعلام، فإن اللغة العربية بحاجة إلى استعادة هيبتها وجاذبيتها. فاللغة المستخدمة في البرامج، والإعلانات، ومنصات التواصل، تشكّل اليوم الوعي اللغوي الجمعي أكثر مما تفعل الكتب المدرسية. ومن هنا، تبرز أهمية إنتاج محتوى عربي راقٍ، مبسّط دون تسطيح، معاصر دون تشويه، يُخاطب الشباب بلغتهم، ويقنعهم بأن العربية ليست عبئاً ثقيلاً، بل أداة تعبير غنية وقادرة على مواكبة العصر الرقمي.
إن حماية اللغة العربية مسؤوليةً جماعية، تبدأ بالتشريع ولا تنتهي عنده، وتقوم على وعي ثقافي عميق بأن التفريط باللغة هو تفريط بالذات. وفي يوم اللغة العربية، نحن مدعوون إلى الانتقال من القلق إلى الفعل، ومن الشكوى إلى بناء منظومة متكاملة تحمي لغتنا من التشوه، وتمنح الأجيال القادمة الحق في لغة سليمة، حيّة، ومتصالحة مع العصر دون أن تفقد روحها.
فاللغة العربية لا تحتاج إلى من يرثيها، بل إلى من يؤمن بها، ويستخدمها بثقة، ويمنحها مكانها الطبيعي في المدرسة، والبيت، والشارع، والفضاء الرقمي… لأنها ببساطة، ليست لغة الماضي، بل لغة المستقبل إن أحسنا حمايتها.