facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الشتاء في الصيف .. تأملات صوفية


د. بركات النمر العبادي
20-12-2025 10:37 AM

في ظهيرة صيفية مشبعة بالشمس والضوء ، جلستُ أمام النافذة أراقب السماء وقد تجمعت فيها سحب رمادية لم يكن من المفترض أن تكون هناك ، الهواء صار باردًا فجأة ، وكأن فصلاً آخر تسلل إلى الموسم خلسة ، شعرت بقشعريرة ، ليست من البرد وحده ، بل من ذكرى مرّت أمامي كطيف ، ذكرى ما زالت تسكنني بقوة.

لم أكن أظن أن شيئًا يمكن أن يُربك فصول القلب ، او أن يتسلل برد الشتاء إلى دفء الصيف ، لكنه حدث كما يفاجئنا المطر في منتصف الطريق ، كما يغمرنا الحنين في لحظة لم نحسب لها حساب ، فقدته لا أعلم كيف ومتى، لكنني وجدت نفسي ذات صباح خاليا من صوته ، من حضوره ، من دفء كان يملأني.

الحب معه ، كان حياة كان امتدادًا لي ، كان مرآةً صافية لما أكون عليه حين أُحب ، ولكن وحين مضى ، لم يترك خلفه سوى الصقيع ، مع ان الأماكن كانت نفسها ، والوجوه نفسها ، حتى ضوء الشمس بقي على حاله ، لكنه صار باهتًا ، بلا طعم ، و كنت أمشي تحت الشمس ، لكنني كنت اشعر بالبرد ، كنت أبتسم ، لكن في داخلي كان صمتٌ يشبه الثلج.

كثيرًا ما كنت أتساءل : هل نحن نحبهم فعلًا ، أم نحب أنفسنا وهم بجانبنا ؟ كنت شخصًا آخر حين كان ، أكثر دفئًا ، أكثر إيمانًا بالحيا ة ، أما الآن : فقد صار الحب مجرد ذكرى ، وصار الوجع رفيقًا دائمًا ، يشبه شتاءً قارسا لا يزول.

في لحظة صفاء ، أدركت أن الحب الضائع لا يموت ، بل يتحوّل ، فيمكن ان يتحول إلى حنين ، إلى درس ، إلى مرآة نرى فيها هشاشتنا وقوتنا في آنٍ واحد ، وكما أن الشتاء ، ومهما طال ، لا يمنع عودة الربيع ، فإن القلب ، وإن تجمد ، لا بد أن ينبض من جديد.

لكنني لن أنسى أبدًا كيف كان ذلك الحب وكيف امسى خبرا ، وكيف شعرتُ يومها بأن "الشتاء في الصيف" ليس مجرد خلل في الطقس ، بل وصف دقيق لما يفعله الفقد فينا.

مرت سنوات... أو ربما لحظات ، من الصعب أن أحدد الزمن بعده لانه لم يعد يمضي بخط مستقيم ، بل صار يتقافز في داخلي مثل ظلٍّ هارب من ذاته.

كنت أسير ذات مساء ، لا أعرف إلى أين ، فقط أمشي كانت الطرقات نفسها ، لكنها بدت غريبة ، كما لو أن كل شيء يحتفظ بسره عني ، و السماء كانت رمادية دون مطر، والريح تدور حولي كمن يهمس بما لا يُقال و كان قلبي ساكنًا ، لكنه لم يكن خاليًا ، هناك شيء ما كان ينبض في عمقه ، يشبه ذكرى لا تتكلم ، لكنها لا تموت.

عند مفترق طريق غير مألوف ، توقفت ، لم أقرر بعد إلى أين ساذهب ، ولم أسأل لماذا وصلت ، هناك ، على المقعد الخشبي القديم ، جلست ومن حولي بدت الأشجار ككائنات كانت تراقبقني، لا تتحرك ، لكنها تعرف شيئا عني .

ظهر شخص فجأة ، لم أره بوضوح ، لم أعرفه ، أو ربما عرفته يومًا ثم نسيته كما ننسى الحلم بعد الاستيقاظ ، جلس بصمت بجانبي ، دون أن ينظر إليّ ، لكن حضوره أثار شيئًا في داخلي وكأن روحي تعرفه ، كأن صوته ، الذي لم ينطق ، كان يقول لي: "أنت لم تخسر شيئًا... أنت فقط تغيرت "لم أجب ، فقط نظرت أمامي ، ورأيتني هناك ، امشي في البعيد ، اسير في طريق لم أسلكه يومًا ، لكنها تشبهني و لربما لم يكن الحب هو الذي ضاع ، بل كنت أنا من أفلتني ذات شتاء في قلب الصيف.

حين التفتُّ ، كان قد اختفى ، قد ترك وراؤه دفئًا غريبًا ، لا يشبه دفء الجسد ، بل دفء الفهم ، أو ربما التسليم ، لم أعرف إن كنت أحلم ، أم أن الحلم هو ما كنا نعيشه قبل أن يرحل.

الآن ، حين يسألني أحد عن الحب ، لا أصفه بشيء ، أكتفي بالصمت ، وأبتسم ابتسامة من ذاق الشتاء في الصيف ، وفهم أن لا شيء يدوم ، إلا أثرٌ يبقى ، في مكانٍ لا يُرى ، لكنه يُحسّ.

منذ تلك الليلة ، لم أعد أبحث عن إجابات ، صرت أكتفي بالأسئلة ، لا لأصل ، بل لأتوازن ، لم أعد أسأل : "لماذا ذهب؟" بل أصبحت أتساءل: "لماذا كان؟" وهل كان حقًا ، أم أن ما شعرتُ به كان صورةً رسمتها روحي لتتجنب وحدتها ؟ ، أحيانًا ، حين أكون وحدي ، أشعر بأن الحب لم يكن شخصًا ، بل حالة ، بل لحظة من التناغم بيني وبين شيء لا اسم له ، وربما لم يكن الشتاء في الصيف مأساة ، بل لحظة كشف ، لحظة تعرّت فيها الأشياء من أقنعتها ، وانكشفت هشاشة المعاني التي كنا نلصقها بالحياة.

الآن ، كلما هبّ نسيم بارد في صيفٍ قائظ ، أبتس ، لا حزناً ولا فرحًا ، بل كأنني أُحيي صديقًا قديماً مرَّ من هنا ، وقال بصمته كل شيء ورحل ، وربما... فقط ربما... لن يعود الحب كما كان ، لكنه لن يُمحى أيضًا ، و سيبقى كصوتٍ خافت في الذاكرة ، كأثرِ نجمٍ انطفأ منذ آلاف السنين ، لكن نوره ما زال يصلنا ، وهنا ، في هذه اللحظة ، أقف بين يقينٍ لم يكتمل ، وسؤالٍ لم أعد أبحث له عن إجابة :
هل نحن من نضيع الحب ، أم أن الحب يضيعنا ، لنجد شيئًا أعمق منّا ؟

وفي خضم هذه التأملات ، خطر ببالي حب رابعة العدوية ، ذلك الحب الذي تجاوز الأشكال والوجوه ، وتحلل من التعلق بالمخلوق إلى الانصهار في حب الخالق ، كانت رابعة ترى في كل فقدٍ دعوة ، وفي كل ألمٍ طريقًا ، وفي كل "شتاء في الصيف" إشارة إلى مقام أعلى من الإدراك ، لم تحزن على غياب أحد ، لأنها كانت متصلة بمن لا يغيب ، حبها لم يكن ينتظر مقابلاً ، لم يكن مشروطًا بحضور أو مظهر، بل كان ذوبانًا في ذات الله ، واحتراقًا في نوره ، عندها أدركت أن الحب ، حين يسمو، لا يُفقد ، بل يتحول ، و حين لا يعود الإنسان متمسكًا بما هو فانٍ ، يصبح كل شتاءٍ دفئًا ، وكل فراقٍ وصالاً، وكل وحدةٍ امتلاءً ، و ربما، كان ما ظننّاه فقدًا هو بداية الانكشاف ، وربما الشتاء الذي داهم صيفنا ، لم يكن إلا لمسةً من الله ، ليذكرنا أن القلب لا يكتمل إلا به ، ولا يسكن إلا فيه.

حمى الله الاردن و سدد على طريق الحق خطى قيادته وشعبه .





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :