الشتاء في الصيف .. تأملات صوفية
د. بركات النمر العبادي
20-12-2025 10:37 AM
في ظهيرة صيفية مشبعة بالشمس والضوء ، جلستُ أمام النافذة أراقب السماء وقد تجمعت فيها سحب رمادية لم يكن من المفترض أن تكون هناك ، الهواء صار باردًا فجأة ، وكأن فصلاً آخر تسلل إلى الموسم خلسة ، شعرت بقشعريرة ، ليست من البرد وحده ، بل من ذكرى مرّت أمامي كطيف ، ذكرى ما زالت تسكنني بقوة.
لم أكن أظن أن شيئًا يمكن أن يُربك فصول القلب ، او أن يتسلل برد الشتاء إلى دفء الصيف ، لكنه حدث كما يفاجئنا المطر في منتصف الطريق ، كما يغمرنا الحنين في لحظة لم نحسب لها حساب ، فقدته لا أعلم كيف ومتى، لكنني وجدت نفسي ذات صباح خاليا من صوته ، من حضوره ، من دفء كان يملأني.
الحب معه ، كان حياة كان امتدادًا لي ، كان مرآةً صافية لما أكون عليه حين أُحب ، ولكن وحين مضى ، لم يترك خلفه سوى الصقيع ، مع ان الأماكن كانت نفسها ، والوجوه نفسها ، حتى ضوء الشمس بقي على حاله ، لكنه صار باهتًا ، بلا طعم ، و كنت أمشي تحت الشمس ، لكنني كنت اشعر بالبرد ، كنت أبتسم ، لكن في داخلي كان صمتٌ يشبه الثلج.
كثيرًا ما كنت أتساءل : هل نحن نحبهم فعلًا ، أم نحب أنفسنا وهم بجانبنا ؟ كنت شخصًا آخر حين كان ، أكثر دفئًا ، أكثر إيمانًا بالحيا ة ، أما الآن : فقد صار الحب مجرد ذكرى ، وصار الوجع رفيقًا دائمًا ، يشبه شتاءً قارسا لا يزول.
في لحظة صفاء ، أدركت أن الحب الضائع لا يموت ، بل يتحوّل ، فيمكن ان يتحول إلى حنين ، إلى درس ، إلى مرآة نرى فيها هشاشتنا وقوتنا في آنٍ واحد ، وكما أن الشتاء ، ومهما طال ، لا يمنع عودة الربيع ، فإن القلب ، وإن تجمد ، لا بد أن ينبض من جديد.
لكنني لن أنسى أبدًا كيف كان ذلك الحب وكيف امسى خبرا ، وكيف شعرتُ يومها بأن "الشتاء في الصيف" ليس مجرد خلل في الطقس ، بل وصف دقيق لما يفعله الفقد فينا.
مرت سنوات... أو ربما لحظات ، من الصعب أن أحدد الزمن بعده لانه لم يعد يمضي بخط مستقيم ، بل صار يتقافز في داخلي مثل ظلٍّ هارب من ذاته.
كنت أسير ذات مساء ، لا أعرف إلى أين ، فقط أمشي كانت الطرقات نفسها ، لكنها بدت غريبة ، كما لو أن كل شيء يحتفظ بسره عني ، و السماء كانت رمادية دون مطر، والريح تدور حولي كمن يهمس بما لا يُقال و كان قلبي ساكنًا ، لكنه لم يكن خاليًا ، هناك شيء ما كان ينبض في عمقه ، يشبه ذكرى لا تتكلم ، لكنها لا تموت.
عند مفترق طريق غير مألوف ، توقفت ، لم أقرر بعد إلى أين ساذهب ، ولم أسأل لماذا وصلت ، هناك ، على المقعد الخشبي القديم ، جلست ومن حولي بدت الأشجار ككائنات كانت تراقبقني، لا تتحرك ، لكنها تعرف شيئا عني .
ظهر شخص فجأة ، لم أره بوضوح ، لم أعرفه ، أو ربما عرفته يومًا ثم نسيته كما ننسى الحلم بعد الاستيقاظ ، جلس بصمت بجانبي ، دون أن ينظر إليّ ، لكن حضوره أثار شيئًا في داخلي وكأن روحي تعرفه ، كأن صوته ، الذي لم ينطق ، كان يقول لي: "أنت لم تخسر شيئًا... أنت فقط تغيرت "لم أجب ، فقط نظرت أمامي ، ورأيتني هناك ، امشي في البعيد ، اسير في طريق لم أسلكه يومًا ، لكنها تشبهني و لربما لم يكن الحب هو الذي ضاع ، بل كنت أنا من أفلتني ذات شتاء في قلب الصيف.
حين التفتُّ ، كان قد اختفى ، قد ترك وراؤه دفئًا غريبًا ، لا يشبه دفء الجسد ، بل دفء الفهم ، أو ربما التسليم ، لم أعرف إن كنت أحلم ، أم أن الحلم هو ما كنا نعيشه قبل أن يرحل.
الآن ، حين يسألني أحد عن الحب ، لا أصفه بشيء ، أكتفي بالصمت ، وأبتسم ابتسامة من ذاق الشتاء في الصيف ، وفهم أن لا شيء يدوم ، إلا أثرٌ يبقى ، في مكانٍ لا يُرى ، لكنه يُحسّ.
منذ تلك الليلة ، لم أعد أبحث عن إجابات ، صرت أكتفي بالأسئلة ، لا لأصل ، بل لأتوازن ، لم أعد أسأل : "لماذا ذهب؟" بل أصبحت أتساءل: "لماذا كان؟" وهل كان حقًا ، أم أن ما شعرتُ به كان صورةً رسمتها روحي لتتجنب وحدتها ؟ ، أحيانًا ، حين أكون وحدي ، أشعر بأن الحب لم يكن شخصًا ، بل حالة ، بل لحظة من التناغم بيني وبين شيء لا اسم له ، وربما لم يكن الشتاء في الصيف مأساة ، بل لحظة كشف ، لحظة تعرّت فيها الأشياء من أقنعتها ، وانكشفت هشاشة المعاني التي كنا نلصقها بالحياة.
الآن ، كلما هبّ نسيم بارد في صيفٍ قائظ ، أبتس ، لا حزناً ولا فرحًا ، بل كأنني أُحيي صديقًا قديماً مرَّ من هنا ، وقال بصمته كل شيء ورحل ، وربما... فقط ربما... لن يعود الحب كما كان ، لكنه لن يُمحى أيضًا ، و سيبقى كصوتٍ خافت في الذاكرة ، كأثرِ نجمٍ انطفأ منذ آلاف السنين ، لكن نوره ما زال يصلنا ، وهنا ، في هذه اللحظة ، أقف بين يقينٍ لم يكتمل ، وسؤالٍ لم أعد أبحث له عن إجابة :
هل نحن من نضيع الحب ، أم أن الحب يضيعنا ، لنجد شيئًا أعمق منّا ؟
وفي خضم هذه التأملات ، خطر ببالي حب رابعة العدوية ، ذلك الحب الذي تجاوز الأشكال والوجوه ، وتحلل من التعلق بالمخلوق إلى الانصهار في حب الخالق ، كانت رابعة ترى في كل فقدٍ دعوة ، وفي كل ألمٍ طريقًا ، وفي كل "شتاء في الصيف" إشارة إلى مقام أعلى من الإدراك ، لم تحزن على غياب أحد ، لأنها كانت متصلة بمن لا يغيب ، حبها لم يكن ينتظر مقابلاً ، لم يكن مشروطًا بحضور أو مظهر، بل كان ذوبانًا في ذات الله ، واحتراقًا في نوره ، عندها أدركت أن الحب ، حين يسمو، لا يُفقد ، بل يتحول ، و حين لا يعود الإنسان متمسكًا بما هو فانٍ ، يصبح كل شتاءٍ دفئًا ، وكل فراقٍ وصالاً، وكل وحدةٍ امتلاءً ، و ربما، كان ما ظننّاه فقدًا هو بداية الانكشاف ، وربما الشتاء الذي داهم صيفنا ، لم يكن إلا لمسةً من الله ، ليذكرنا أن القلب لا يكتمل إلا به ، ولا يسكن إلا فيه.
حمى الله الاردن و سدد على طريق الحق خطى قيادته وشعبه .