فلسطين: آخر قضايا تصفية الاستعمار في القرن 21
م. سعيد المصري
20-12-2025 10:45 PM
مدخل: من البحث الأكاديمي إلى السؤال السياسي
في إحدى الدراسات المتخصصة التي نوقشت في مركز دراسات الشرق الأوسط، تناولت مجموعة من القانونيين والخبراء في التاريخ القانوني للقضية الفلسطينية إمكانية توصيف فلسطين كقضية تصفية استعمار بالاستناد إلى القرار 1514 الصادر عام 1960 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لم يكن هذا الطرح نظريًا أو طوباويًا، بل جاء نتيجة فشل المسارات السياسية التقليدية، وتآكل المرجعيات التفاوضية، واستمرار الاحتلال والاستيطان وفرض الوقائع بالقوة، رغم مرور عقود على صدور قرارات دولية واضحة تؤكد عدم شرعية هذا الاحتلال ووجوب إنهائه.
من هنا عاد السؤال الجوهري إلى الواجهة: هل ما زالت القضية الفلسطينية تُدار كنزاع سياسي، أم آن الأوان لإعادتها إلى موقعها القانوني الصحيح: قضية شعب خاضع لاستعمار أجنبي؟
أولًا: القرار 1514… الإطار القانوني الأعلى لتصفية الاستعمار
صدر القرار 1514 (د-15) عام 1960 تحت عنوان «إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمَرة»، ليشكّل أحد أهم أعمدة القانون الدولي المعاصر.
ويؤكد القرار مبادئ قاطعة، أبرزها حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها دون قيد أو شرط، وأن الاستعمار بجميع أشكاله ومظاهره يجب أن يُنهى فورًا، وعدم جواز إخضاع أي شعب لهيمنة أجنبية أو استيطان إحلالي، وأن أي ذريعة تتعلق بالجاهزية السياسية أو الاقتصادية لا تُبرر تأخير الاستقلال.
هذه المبادئ لم تُصَغ لحالات تاريخية منتهية، بل وُضعت كقاعدة دائمة لمعالجة أي وضع يخضع فيه شعب لسيطرة أجنبية مفروضة بالقوة.
ثانيًا: لماذا فلسطين تحديدًا تنطبق عليها معايير 1514؟
تنطبق معايير تصفية الاستعمار الواردة في القرار 1514 على الحالة الفلسطينية بشكل شبه حرفي، وذلك بسبب وجود قوة أجنبية عسكرية تسيطر على الأرض، واستيطان إحلالي منظّم يغيّر الطابع الديمغرافي والجغرافي، وغياب السيادة الوطنية على الأرض والحدود والموارد، وحرمان السكان الأصليين من حق تقرير المصير.
وهذه العناصر تتوافر اليوم في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، بدرجات مختلفة، لكنها جميعًا تشترك في توصيف واحد: أراضٍ خاضعة لهيمنة أجنبية قسرية.
ثالثًا: لماذا العودة إلى 1514 الآن؟ فشل مسار قرارات مجلس الأمن
إن الدعوة إلى تفعيل القرار 1514 لا تأتي من فراغ، بل من انسداد المسار القائم على قرارات مجلس الأمن، رغم عدالتها النظرية.
فالقرار 181 لعام 1947، الصادر عن الجمعية العامة، لم يحدّد حدودًا نهائية ولم يُنشئ آلية تنفيذ، كما لم يتعامل مع مسألة السيادة الفلسطينية لاحقًا. أما القرار 242 لعام 1967 فقد أقرّ مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة ودعا إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتُلت عام 1967، وأعاد القرار 338 لعام 1973 التأكيد عليه.
ورغم وضوح هذه القرارات، فإن الواقع يؤكد عدم حدوث انسحاب كامل، وعدم إنهاء السيطرة العسكرية، واستمرار الاستيطان، وعدم قيام الدولة الفلسطينية.
لماذا يصبح اللجوء إلى القرار 1514 ضرورة لا خيارًا؟
إن اللجوء إلى القرار 1514 لا يُمثّل قفزًا على الشرعية الدولية، بل هو نتيجة مباشرة لفشل المجتمع الدولي في إجبار إسرائيل على الالتزام بها.
فمنذ أكثر من خمسة عقود، أكدت قرارات دولية متكررة وجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل الرابع من حزيران/يونيو 1967، بما فيها القدس الشرقية، ورفضت صراحةً مبدأ الاستيلاء على الأرض بالقوة. ومع ذلك، لم تلتزم إسرائيل بهذه القرارات، بل واجهتها بسياسات الضم الزاحف والتوسع الاستيطاني وفرض الوقائع الديمغرافية والجغرافية.
وفي الوقت الذي تشكّل فيه إجماع دولي واسع على حل الدولتين، ظل هذا الإجماع عاجزًا عن التحول إلى مسار تنفيذي، بسبب مقاومة إسرائيلية شرسة، وبدعم سياسي ودبلوماسي غير محدود من الولايات المتحدة، وبمساندة قوى تتبنى الأيديولوجيا الصهيونية القومية–الدينية.
في هذا السياق، يصبح القرار 1514 مسارًا قانونيًا بديلاً مشروعًا، والعودة إلى مبدأ تصفية الاستعمار واجبًا قانونيًا وأخلاقيًا.
رابعًا: من نزاع سياسي إلى قضية استعمار
أخطر ما جرى للقضية الفلسطينية هو تحويلها من قضية تحرر وطني إلى نزاع تفاوضي مفتوح يقوم على افتراض تكافؤ بين طرفين، أحدهما محتل والآخر واقع تحت الاحتلال، ما عطّل أدوات تصفية الاستعمار وأتاح للاحتلال كسب الوقت وفرض الوقائع.
خامسًا: ماذا يغيّر اعتماد مسار 1514 عمليًا؟
اعتماد القرار 1514 كمرجعية عليا يعيد توصيف إسرائيل كقوة استعمار أجنبي، ويعيد توصيف الشعب الفلسطيني كشعب خاضع للهيمنة، ويفعّل أدوات أممية مهمّشة، وينزع الشرعية عن مشاريع السلام الاقتصادي وإدارة السكان.
سادسًا: لماذا لا يوجد موقف عربي–عالمي موحد حتى الآن؟
ليس بسبب ضعف الأساس القانوني، بل لأسباب سياسية تتعلق بالخشية من الصدام مع الولايات المتحدة، والخلط المتعمّد بين تصفية الاستعمار ونسف حل الدولتين، وتفضيل إدارة الأزمة بدل تدويلها قانونيًا.
الخلاصة: إعادة القضية إلى مكانها الطبيعي
القضية الفلسطينية ليست أزمة إنسانية ولا نزاعًا حدوديًا ولا فشل مفاوضات، بل هي في جوهرها آخر قضايا تصفية الاستعمار في القرن الحادي والعشرين. وما لم تُعاد صياغتها قانونيًا على هذا الأساس، ستبقى كل المبادرات السياسية مجرد أدوات لإدارة واقع غير شرعي، لا لإنهائه.