في لحظات نادرة، يتفق الناس على شيء واحد دون اتفاقٍ مُسبق. لا بيان، لا دعوة، ولا خطاب رسمي. فقط عيون متجهة إلى شاشة، وقلوب تخفق بإيقاع واحد. هكذا تعمل الرياضة حين تنجح: لا تُقنعنا بقدر ما تجمعنا، ولا تُخاطب عقولنا فقط، بل إحساسنا العميق بالانتماء.
في هذه اللحظات، لا تكون الرياضة مجرد لعبة، بل مساحة نادرة لاختبار معنى الجماعة والانتماء.
وعلى هامش الإنجازات الكروية المتوالية والكبيرة لمنتخبنا الأردني لكرة القدم ، يتجدد سؤال قديم في ذهني : ماذا نفعل بهذه الطاقة الجمعية؟ هل نتركها تنتهي مع صافرة الحكم، أم نفكر فيها كقيمة اجتماعية أوسع من نتيجة مباراة؟
الرياضة، في أصلها، لم تُخلق للترفيه فقط. فلطالما كانت فعلًا اجتماعيًا بامتياز، تدريب جماعي على القواعد، وعلى فكرة الفريق، وعلى قبول الخسارة قبل الاحتفاء بالفوز. لهذا السبب كانت دائمًا قريبة من السياسة، لا باعتبارها أداة دعائية فقط، بل لأنها تعلّم الناس كيف يكونون معًا في الفضاء العام، وكيف يختلفون وينتصرون ويفوزون دون أن يتفككوا.
ولعلّ سحر كرة القدم تحديدًا يكمن في تناقضها البسيط: لعبة شديدة البساطة، تقوم على مهارة عالية وانضباط جماعي، لكنها تظل مفتوحة على الاحتمال والمفاجأة. لا تُحسم نتائجها بالحسابات وحدها، ويبقى الأمل حاضرًا في ملعبها حتى الثوان الأخيرة. في كرة القدم، تتجاور الجدية والدهشة، ولعلها تذكرنا في " شوطين " بفلسفة الحياة في بعض جوانبها .
صحيح أن كثيرين يرون في الرياضة نوعًا من “الأفيون”، مساحة تُلهينا عن قضايا أكبر وأكثر إلحاحًا. وهذا القلق مفهوم. لكن الأفيون ليس في الرياضة نفسها، بل في الطريقة التي نُفرغها بها من معناها الجمعي، ونحوّلها إلى استهلاك عابر. ..
حينها تفقد قدرتها على أن تكون مساحة وعي، وتتحول إلى مهرب مؤقت من الأسئلة الكبرى بدل أن تكون جزءًا من الإجابة عنها.
الرياضة تصبح خطِرة حين تتحول إلى تعصّب، وحين يُستبدل التشجيع بخطاب كراهية، وحين يُختزل الانتماء في إقصاء الآخر. عندها نفقد “الروح الرياضية” التي يُفترض أنها جوهر اللعبة، ونحوّل مساحة اللقاء إلى ساحة صراع رمزي لا ضرورة له.
في المقابل، يمكن للرياضة أن تكون مدرسة غير مباشرة للمواطنة: أن نتعلم منها الفرح دون إهانة، والهتاف دون شتم، والانحياز دون تخوين. أن نفهم أن “روح الفريق” لا تعني ذوبان الفرد، بل احترام الدور، والالتزام بالقواعد، والعمل من أجل هدف مشترك…وراية واحدة ..
المطلوب في نظري ليس تمجيد الانتصارات الرياضية فوق طاقتها ولا تحميلها ما لا تحتمل، بل التفكير فيها كمساحة تدريب اجتماعي. من المدرج إلى المجتمع، من الملعب إلى الحياة اليومية، يمكن لهذه اللحظات الجامعة أن تذكّرنا بأننا ما زلنا قادرين على الالتفاف حول معنى واحد، دون أن نمزّق بعضنا بعضًا.
ربما لا تحل الرياضة أزماتنا الكبرى، لكنها تفتح نافذة صغيرة على ما يمكن أن نكونه حين نختار اللقاء بدل الانقسام. وربما يكون الرهان الحقيقي ليس في أن نفوز في الملعب فقط ..فحين نحسن قراءة لحظة الفوز، قد نكتشف أنها تدريب صغير على معنى أكبر اسمه المجتمع.