من اليمين بلّش .. وحط على كل طاولة منسف
محمود الدباس - أبو الليث
21-12-2025 11:54 AM
منذ طفولتنا ونحن نتعلّم الطقوس.. قبل أن نتعلّم المعاني.. نعرف أن صبّ القهوة يبدأ من اليمين.. وأن التقديم للأكبر سناً يسبق غيره.. وأن الداخل إلى المجلس.. لا يحتاج وصاية ليعرف أين يقف.. وكيف يسلّم.. هذه قواعد محفورة في الذاكرة الجمعية.. لا تحتاج من يذكّر بها.. ولا من يرفع صوته ليشرحها..
لكن الغريب.. أن في كل مناسبة.. يظهر مَن يتصرّف وكأنه مكتشف النار بعد الحجر.. يقف في منتصف المشهد.. لا يحمل دلةً.. ولا فنجاناً.. ولا منسفاً.. ثم يطلق جملته الذهبية.. من اليمين بلّش.. أو حط على كل طاولة منسف.. وكأن حامل دلة القهوة لا يعرف ماذا يفعل.. أو كان سيَصُبها على الجدران.. وكأن الشباب سيضعون على كل طاولة أكثر من منسف.. أو سيتركون بعضاً من الطاولات بلا مناسف.. لولا حكمته المفاجئة..
هؤلاء لا يجهلون الواقع.. بل يعرفونه جيداً.. ويعرفون أن مَن يعمل متعب.. وأن مَن يحمل يعرف طريقه دون إرشاد.. لكنهم يبحثون عن أثرٍ صوتي.. عن بصمةٍ عابرة.. عن لحظة يشعرون فيها.. أن أعين الحضور التفتت إليهم.. ولو لثانية..
في تلك الثانية -للأسف- تُسرق الأضواء.. وتُمحى ساعات التعب.. وسهر الليالي.. وتذوب الأكتاف المنهكة في الظل.. ويصبح مَن قال تلك الجملة.. شريكاً أصيلاً في الإنجاز.. وربما قائده.. بينما أصحاب العرق الحقيقي يقفون صامتين.. لأن التعب لا يملك صوتاً عالياً..
هذا المشهد لا يخص المناسبات وحدها.. هو نسخة مصغّرة عن الحياة كلها.. في العمل.. في العائلة.. في المبادرات.. وفي الأزمات.. بين الاصدقاء.. وفي الحيّ.. دائماً هناك مَن يعمل بصمت.. ودائماً هناك مَن يصل متأخراً ليلتقط الصورة الأخيرة.. ثم يخرج وهو يعتقد أنه كان في قلب الحدث..
وحتى أكون منصفاً.. العبرة ليست في الجملة نفسها.. بل في نية قائلها.. هل يقولها ليُسهّل.. أم ليُسجّل حضوره على حساب غيره.. وهل نحن نكافئ مَن يتكلم.. أم مَن يتعب ويجتهد؟!..
حين نفهم ذلك.. سنعرف أن أخطر ما يواجه الجهد.. ليس الفشل.. بل أولئك الذين يأكلونه بارداً.. ويغادرون دون أن تلتفت إليهم الذاكرة.. بينما يبقى التعب.. شاهداً لا يصفّق.. لكنه لا يُنسى..