facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




"الهيشة" .. في الانتظار


حسن عبدالحميد الرواشدة
21-12-2025 05:27 PM

في أعلى قمم الشوبك، حيث يعلو المكان على الخرائط كما تعلو الفكرة على الإهمال، تقف "الهيشة" كأنها سؤال مفتوح في وجه السياسات التنموية في جنوب الأردن. منطقة حرجية مرتفعة، باردة حد القسوة شتاءً، ومعتدلة حد الندرة صيفاً، تتساقط عليها الثلوج حين يندر الثلج، وتبقى درجات حرارتها أقل من محيطها حين يلهث الجميع خلف نسمة هواء. ومع ذلك، بقيت الهيشة خارج الحسابات، منسية في دفاتر التخطيط، غائبة عن خرائط الاستثمار، كأن الجغرافيا حين تهب فرصة استثنائية لا تجد من يلتقطها.

الهيشة ليست مجرد أرض مرتفعة أو غابة صنوبر وسنديان، بل كتلة بيئية-مناخية نادرة في جنوب المملكة، تشبه في خصائصها مناطق مصنّفة عالمياً كوجهات سياحة بيئية وجبلية. الارتفاع الذي يتجاوز في بعض نقاطه 1500متر، الغطاء الحرجي الطبيعي، الفارق الحراري الواضح، كل ذلك يضعها موضوعياً في قلب ما يُعرف دولياً بسياحة "الهروب المناخي"، حيث يبحث الناس عن البرودة، الطبيعة، العزلة، والمشي في الغابات، لا عن الفنادق الخرسانية.

والأهم، أن الهيشة لا تقع في فراغ. هي على مسافة قصيرة من البتراء، أحد أهم مواقع التراث الإنساني في العالم، الذي يستقبل مئات آلاف الزوار سنوياً، لكنه يعاني من نمط سياحي أحادي، زيارة سريعة، مبيت محدود، إنفاق منخفض خارج أسوار الموقع. هنا تحديداً تكمن المفارقة التنموية. كيف يمكن لمنطقة تبعد دقائق عن البتراء، وتملك مناخاً مختلفاً وبيئة مختلفة وتجربة مختلفة، أن تبقى خارج معادلة القيمة المضافة؟ وكيف يُعقل أن يبقى الزائر محصوراً بين السيق والخزنة، بينما يمكن أن تمتد تجربته إلى غابة باردة، مسارات مشي، مخيمات بيئية، بيوت ضيافة، ونمط سياحي مستدام ينعكس مباشرة على دخل المجتمع المحلي؟

التجارب الدولية لا تحتاج إلى كثير عناء لإثبات الفكرة. مناطق جبلية قريبة من مواقع أثرية كبرى في إيطاليا، إسبانيا، تركيا، وحتى المغرب، تحولت إلى أذرع تنموية مكمّلة، لا تنافس الموقع الأثري، بل تحميه. السياحة البيئية تخفف الضغط عن الموقع الرئيسي، تطيل مدة إقامة السائح، وتوزّع العائد الاقتصادي على نطاق أوسع. هذه ليست نظرية، بل نموذج معتمد من منظمة السياحة العالمية، التي تربط بين التنمية المحلية، حماية البيئة، وتنويع المنتج السياحي كشرط للاستدامة.

في حالة الهيشة، لا نتحدث عن مشروع خيالي أو مكلف. نحن أمام فرصة منخفضة الكلفة عالية الأثر. مسارات مشي مدروسة، نقاط إطلالة، تنظيم التخييم، استثمار محدود في بنية تحتية خفيفة، تشجيع بيوت الضيافة، وربط المنطقة بخارطة السياحة الوطنية "كملاذ بارد" لجنوب الأردن. الأثر لا يكون سياحياً فقط، بل اجتماعياً واقتصادياً، فرص عمل، تثبيت السكان في أراضيهم، تحريك الاقتصاد المحلي، وإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان.

لكن المشكلة ليست في الإمكانات، بل في الذهنية. ذهنية ترى التنمية ككتلة إسمنتية، والسياحة كفندق خمس نجوم، والاستثمار كصفقة سريعة. الهيشة لا تحتاج إلى هذا النموذج، بل ستتضرر منه. ما تحتاجه هو رؤية سياسية-تنموية تعترف بأن الجنوب ليس فقط خزان آثار، بل فضاء حياة. وأن القرب من البتراء ليس لعنة تُبقي المناطق المجاورة في ظلها، بل فرصة لتشكيل حزام تنموي ذكي يخفف الضغط عن الموقع ويحميه ويعيد توزيع العائد.

الهيشة اليوم اختبار صريح للدولة، هل ترى الجغرافيا كعبء أم كفرصة؟ هل ما زالت التنمية تُدار من المكاتب البعيدة أم من فهم المكان؟ وهل يمكن لقرار واحد مدروس أن يحوّل منطقة منسية إلى نموذج وطني للسياحة البيئية والتنمية المحلية؟

في زمن الحديث عن اللامركزية، العدالة التنموية، والاستدامة، تبقى الهيشة دليلاً صامتاً على الفجوة بين الخطاب والتطبيق. منطقة باردة في حرّ الإهمال، مرتفعة فوق الحسابات، تنتظر فقط أن تُرى. ليس أكثر.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :