روحُ المحافظة عندما تسكن الحشود الرياضية
د. بركات النمر العبادي
22-12-2025 10:31 AM
في زمنٍ يتسارعُ فيه التغيير، وتتشظى فيه الهويات بين موجات الحداثة الجارفة ، تظهر روح المحافظة كحارسٍ أمين لذاكرة المجتمع ، وكأنها ذلك النبض الذي يسري في شرايين الحياة اليومية ، فيُعيد للأشياء معناها ، ويثبّت للناس جذورهم في أرضهم.
حين تسكن روح المحافظة مجتمعًا ما ، فإنها لا تمكث في الزوايا المعزولة أو في المتاحف الصامتة ، بل تنبعث في الهواء ، وتتمدد لتتغلغل في العادات والتقاليد ، وتترك أثرها في السلوكيات اليومية ، واللباس ، واللغة ، والمناسبات ، وحتى في طريقة استقبال الضيف أو وداعه.
هذه الروح ليست قيدًا على الحاضر، بل هي صلة رحمٍ بالماضي ، وانتماءٌ متجددٌ للقيم التي بُني عليها المجتمع.
حين تنمو الأجيال في ظل الجذور تُشكّل التجمعات الشبابية في المجتمعات المحافظة صورة من صور الاندماج بين الأصالة والطموح ، فالشاب في هذا الإطار لا يخلع جلده بحثًا عن المعنى ، بل يغوص في تراثه ليكتشف فيه ذاته ، تجد المجالس الشبابية تمتلئ بحديثٍ عن المستقبل ، نعم ، لكن بلغة الماضي ، وتحت سقفٍ من القيم الراسخة : احترام الكبير، حفظ اللسان ، وتقديم المصلحة العامة على النزوات الفردية..
كرة القدم العربية... حين تنتصر الروح قبل الأقدام وفي المشهد الرياضي الأوسع ، تبرز كرة القدم العربية كمرآةٍ لتفاعل المجتمعات المحافظة مع الحداثة ، فالملاعب لم تعد مجرد ساحات للمنافسة ، بل أصبحت مسارح للهوية والانتماء.
وحين حقق المنتخب الأردني انتصاره الباهر مؤخرًا ، لم يكن ذلك مجرّد فوزٍ كروي ، بل لحظةً شعر فيها العرب جميعًا أن الروح لا تزال حية ، وأن القيم قادرة على أن تصنع الفارق داخل الملعب كما خارجه.
لقد هتف الناس في الشوارع ، لا فقط لأهدافٍ سُجّلت، بل لأنهم رأوا في لاعبي المنتخب صورة لأبنائهم ، يجسدون حلم الأمة على منصةٍ عالمية ، كانت تلك اللحظة كافية لتثبت أن الرياضة ، حين تسكنها روح المحافظة ، تتحول من تسلية عابرة إلى قضية وجود ، وإثبات هوية ، وإعلان فخر ، وهذا لم يتغير حتى بعد نتائج المباراة الختامية مع المغرب من تقدير لمنتخب للنشامى الابطال ، فالتقدير للنشاما موصولا و مدفوعا بالروح المحافظة التي تسكن جموع الاردنيين ، التي تفصح عن بناء الثقة الوطنية ، و احياء جذوة الأمل ، واعادة التعريف بطرق النجاح ، وتعليم الأجيال أن الأخلاق ليست عابرة في التاريخ ، بل منتجة له و تعد هذه المعاني المتوطنة في الحشود هي ما تصنع الفرق وتعيد اتقاد المواطنة و احياء الأمم على المدى المنظور و الطويل ، وهي في كثير من الأحيان أثمن من كثير من الالقاب ، و
لم تكن هذه البطولة مجرد حدث رياضي على ارضيات الملاعب ، بل كانت حكاية أردنية معاصرة لاعادة صيغاغة ماهو مكنون بتوقيع اردني معاصر.
الشماغ الأحمر... راية غير مكتوبة للوطن
وفي خضمّ تلك اللحظات الرياضية التي اجتمع فيها الأردنيون حول منتخبهم ، لم يكن الهتاف وحده هو ما لفت الأنظار، بل ذاك الشماغ الأحمر الذي تحوّل إلى راية غير مكتوبة للوطن ، احتضنه الجمهور في المدرجات لا كقطعة قماش ، بل كرمزٍ لأرضٍ وتاريخٍ وهوية ورمزا لاهم مبادىء المحافظة الاردنية (الولاء و الانماء) ، لقد التفّ الشماغ على الأكتاف والجباه ، كما لو أنه يحتضن الجموع ، ويُذكّرهم أنهم أبناء البادية والجبل والوادي ، أبناء الكرامة والوفاء.
كان مشهد الشماغ في المدرجات لحظة تتجاوز الرياضة ، لحظة يذوب فيها الفرد في الجماعة ، ويتحول فيها النسيج التقليدي إلى لوحة وطنية نابضة بالحياة ، ففي زمنٍ تتشابه فيه الأزياء والرموز، يبقى الشماغ الأحمرقادرا على تحريك الحشود و شاهدًا على أن للأردن روحًا لا تُقلد ، ووجهًا لا يُنسى.
الاقتصاد والسياسة... حين يكون الانتماء هو المعيار
في الاقتصاد ، تتجلى روح المحافظة في دعم المنتج المحلي ، واحترام البيع والشراء، وتقدير العمل الشريف مهما كان بسيطًا ، أما السياسة ، فتتجلى فيها عبر الولاء الصادق ، والثقة في القيادة ، والحرص على الاستقرار، بوصفه قيمة تتفوق على المكاسب الآنية.
وفي الختام وفي ظل روح المحافظة ، يصبح الإنسان أكثر اتساقًا مع ذاته ، وأكثر تصالحًا مع ماضيه وحاضره ، هي روح تمنح المجتمعات هوية متجذّرة ، وثباتًا أخلاقيًا ، وتوازنًا بين الماضي والمستقبل ، فليس كل ما هو قديمٌ بائد ، ولا كل جديدٍ مفيد ، وبين هذا وذاك ، تعيش المجتمعات المحافظة بسلامٍ داخلي ، لا يُدركه إلا من عرف أن الثبات على المبادئ في زمن السيولة هو أعظم درجات الشجاعة.
حمى الله الاردن من كل كريهتا