من الفرد إلى الدولة .. حين لا تعود صالحاً للاستفزاز .. يبدأ الوعي
محمود الدباس - أبو الليث
23-12-2025 02:50 PM
لم نتغيّر.. بل نضجنا.. وتعلّمنا أن نضع أرواحنا في مأمن.. دون أن نخلع عنها ثوب الإنسانية..
تلك المسافة الهادئة التي نشأت بيننا وبين الضجيج لم تكن هروباً.. بل وعياً يتقدّم خطوة حين يتأخر الآخرون عشر خطوات..
كثيرون يظنون أن تغيّر ردود أفعالنا علامة قسوة.. أو برود.. أو انكسار.. ولا يعلمون أن الصمت أحياناً أعلى درجات الحكمة.. وأن ضبط الانفعال ليس ضعفاً.. بل سيادة على النفس حين تفلت من غيرنا..
الإنسان الواعي لا يعيش أسير نسخةٍ قديمة من ذاته.. بل يراجعها كل حين.. يحاسبها دون جلد.. ويهذّبها دون قسوة.. فيقصّ الزائد.. ويُبقي الجوهري.. أما الإصرار على الخطأ فهو ليس ثباتاً.. بل عناد أعمى يرتدي ثوب الشجاعة كذباً..
من ينظر إلينا بعينٍ راشدة سيدرك أننا لم نغيّر مبادئنا.. بل رمّمنا طرق الدفاع عنها.. ولم نخفض سقف القيم.. بل رفعنا مستوى التعامل معها.. فالفرق شاسع بين من يبدّل جلده.. ومن يشحذ وعيه..
الغريب أن بعضهم يغضب حين تنضج.. كأنك خذلته.. لأنك لم تعد سهل الكسر.. أو سريع الاستفزاز.. أو صالحاً للعبث.. فيعاتبك لأنك لم تعد كما يريد.. لا كما ينبغي لك أن تكون..
وهذا المنطق لا يقف عند الأفراد.. بل ينسحب على المجتمعات والدول.. فالتغيير المدروس ليس خيانة للماضي.. بل تصحيح لمسارٍ أصرّ الزمن على كشف عثراته.. ولا عيب في مراجعة السياسات.. ولا في تعديل الاتجاه.. العيب كل العيب في المكابرة..
الدول التي تتعلّم لا تعتذر عن وعيها.. والمجتمعات الحيّة لا تخجل من النقد الذاتي.. لأن الثبات على الخطأ موت بطيء.. والتصحيح شجاعة لا يمتلكها إلا الأقوياء..
لسنا مطالبين بأن نُرضي الجميع.. ولا أن نبرّر نضجنا لكل مَن اعتاد نسختنا القديمة.. يكفي أن نكون صادقين مع ذواتنا.. منسجمين مع قيمنا.. وأوفياء لإنسانيتنا..
فالنضج ليس تغيّراً يُخيف.. بل حمايةٌ هادئة.. ووعيٌ متقدّم.. ونورٌ لا يراه إلا من قرر أن يفتح عينيه حقاً..