القضية العادلة لا تُخاصِم رموز السلام
د. رائد قاقيش
24-12-2025 06:12 PM
في زمن الميلاد، حين يُختبَر النضال بأخلاقه قبل شعاراته ، يأتي هذا المقال في لحظة باتت فيها الممارسات المرتبطة بالشعائر الدينية موضع توتّر متزايد في أكثر من سياق، من أوروبا إلى أجزاء من العالم العربي وأفريقيا، حيث لم يعد المساس بالمقدّس مقتصرًا على دين بعينه، بل أصبح ظاهرة تُمارَس أحيانًا باسم السياسة أو الحماسة أو التأويل الخاطئ لمعنى الحق والعدالة. وفي هذا المناخ، لا يقتصر الخطر على انتهاك الطقوس الدينية ذاتها، بل يمتدّ إلى تفكيك مساحات التعاطف الإنساني التي بُنيت تاريخيًا بين الشعوب والقضايا العادلة.
ففي عدد من المدن الأوروبية، ظهرت احتجاجات رُفعت خلالها شعارات باسم القضية الفلسطينية، تزامنت—أو اصطدمت—مع احتفالات عيد الميلاد المجيد، وفي بعض الحالات تجاوز الأمر حدود التعبير ليصل إلى تعطيل الاحتفالات أو تخريب رموزها. هذه الوقائع، الموثّقة والمتداولة، لا يمكن التعامل معها بوصفها أحداثًا هامشية، لأنها تمسّ جوهر المعنى الذي تحمله القضايا العادلة حين تُطرح في الفضاء العام.
المسألة هنا لا تتعلق بحق التظاهر، ولا بمشروعية التضامن مع فلسطين، فهذه حقوق ومواقف إنسانية لا جدال فيها، بل تتعلق بالرمزية: رمزية المكان، ورمزية الزمان، ورمزية الفعل نفسه. فالمناسبات الدينية، وعلى رأسها عيد الميلاد، ليست مجرد طقوس اجتماعية، بل لحظات محمّلة بمعانٍ روحية وإنسانية عميقة، تتجاوز الانتماء الديني الضيّق إلى فضاء القيم المشتركة.
في بعض الحالات، تطوّر هذا الحضور من مجرّد رفع شعارات إلى تعطيل الاحتفالات، بل وتخريب مظاهر مرتبطة بعيد الميلاد، كأشجار الزينة والفضاءات العامة المخصّصة للاحتفال. وهو ما منح المشهد بعدًا أكثر حدّة، وأثار تساؤلات مشروعة حول ما إذا كان هذا الأسلوب يخدم القضية التي يُرفع اسمها أم يسيء إليها.
وهنا لا بد من التمييز بوضوح بين القضية الفلسطينية بوصفها قضية عادلة، وبين بعض الممارسات التي تُرتكب باسمها. فالنقد في هذا السياق لا يستهدف القضية، بل يسعى إلى حمايتها من أن تتحوّل إلى مظلّة تُبرَّر تحتها سلوكيات تصادمية لا تنسجم مع قيم العدالة والحرية التي قامت عليها.
ولعلّ ما يزيد من حساسية هذا النقاش أن القضايا الكبرى، حين تتحوّل إلى مسلّمات مغلقة، تفقد قدرتها على مراجعة ذاتها. فليس كل اختلاف مساسًا، ولا كل سؤال تشكيكًا، ولا كل قراءة نقدية خروجًا عن المعنى. على العكس، كثيرًا ما كانت القضايا العادلة أحوج ما تكون، في لحظاتها المفصلية، إلى نقاش هادئ يحميها من الانزلاق، لا إلى صخب يحاصرها داخل تأويل واحد.
القضية الفلسطينية، في تاريخها ومسيرتها، لم تكن يومًا قضية إقصاء أو كراهية، بل قضية شعب يطالب بالعدل والحرية ورفض الظلم. وقد شارك في حمل هذه القضية والدفاع عنها أبناء هذه الأرض على اختلاف انتماءاتهم، لأن جوهرها كان—ولا يزال—إنسانيًا قبل أي توصيف آخر.
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل فلسطين عن بيت لحم، ولا عن معنى ميلاد السيد المسيح/عيسى عليه السلام، الذي تحتفل الإنسانية بميلاده بوصفه رسول السلام والمحبة والعدل، والرافض للظلم أينما كان. هذه القيم ليست غريبة عن القضية الفلسطينية، بل هي في صميمها، وهي التي منحتها قدرتها التاريخية على مخاطبة ضمير العالم.
إن أي سلوك يُقدَّم باسم فلسطين، لكنه يتناقض مع هذه القيم، لا يضيف للقضية قوة، بل يربك صورتها، ويمنح خصومها ما لا يحتاجون إلى عناء في استثماره. فالقضايا العادلة لا تنتصر بالصدام مع الرموز، ولا بكسر المعاني، بل بالقدرة على أن تكون وفية لما تمثّله أخلاقيًا.
كما أن هذا المسار لا يقتصر خطره على صورة فلسطين في الخارج، بل يحمل قابلية لأن يتحوّل إلى نموذج مقلق إذا ما انتقل إلى مجتمعاتنا العربية، التي قامت تاريخيًا على التنوّع والعيش المشترك، حيث المسلم والمسيحي شريكان في الوطن، وفي الذاكرة، وفي المستقبل. وأي خطاب أو ممارسة تُضعف هذا التوازن، أو تستخفّ برموز الآخر، لا تهدّد نسيجًا اجتماعيًا فحسب، بل تفتح بابًا لانقسامات نحن في غنى عنها.
وفي زمن الميلاد، حيث تتعدّد الأعياد وتتنوع المناسبات، نتقدّم بالتهنئة الصادقة إلى جميع أبناء وطننا وأمتنا، مسلمين ومسيحيين، بعيد الميلاد المجيد، عيد ميلاد السيد المسيح/عيسى عليه السلام، رسول السلام والمحبة، والداعي إلى العدل، والرافض للظلم.
لعلّ في هذه المناسبة تذكيرًا ضروريًا بأن القضايا الكبرى لا تُحمى بالصوت العالي وحده، بل بالحكمة، واحترام الآخر، والوفاء للقيم التي قامت عليها.
فحين نحفظ المعنى، نحفظ القضية، وحين نسيء إلى المعنى، نخاطر بأن نخسر أكثر مما نتصوّر.