آخر ما يهمّ المسيحي العربي
فيصل سلايطة
26-12-2025 04:42 PM
آخر ما يهمّ المسيحي العربي، والمسيحي الشرقي على وجه الخصوص، ليس جدل المعايدات ولا ضجيج التهنئات ولا أصوات الاستفزاز العابرة. فالمسيحي هنا ليس طارئًا على هذه الأرض، ولا عابرًا في تاريخها، بل هو جزءٌ أصيل من ترابها، متجذّر فيها بعمق الزيتون، وثابتٌ كثبات الكنائس التي شُيّدت حجرًا حجرًا .
المسيحي العربي عاش هذه الأرض لغةً وهويةً وذاكرة ، لذلك هي جلّ ما يهمّه. أحبّها لأنها تحكي بلغته، ولأن آثارها تشهد على ما قدّمه: ما بناه من مدارس، وما أسّسه من مستشفيات، وما ربّى من أجيال، وما زرعه من قيم العمل والعلم والانتماء. وحين وُضع يومًا أمام خيارٍ قاسٍ بين مسيحيٍّ غربيٍّ ومسلمٍ عربي، اختار المسلم العربي، واختار البقاء مع هذه الأرض، مع ناسها، مع شمسها وتاريخها ووجعها وأملها.
لم يكن هذا الاختيار إنكارًا للذات، بل تأكيدًا عليها. فالمسيحي الشرقي يدرك أن هويته ليست مجرد انتماء ديني، بل انتماء حضاري وثقافي وإنساني. هو يعلم أن بعض الانتهاكات الفردية أو الممارسات التمييزية، إن وُجدت، لا تعبّر عن روح المجتمع ولا عن جوهر الإسلام، بل هي نماذج شاذة ومرفوضة، لا ترقى لأن تكون غبارًا في فضاء العلاقة العميقة والجميلة التي جمعت المسيحي والمسلم عبر قرون طويلة.
لذلك، آخر ما يهمّ المسيحي الحقيقي هو الانشغال بهذه القلّة القليلة، أو تحويلها إلى معيار للحكم على مجتمع كامل. فالغالبية العظمى تعي قيمة الوطن، وتفهم خطورة الفتنة، وتدرك أن أي شرخ طائفي هو بداية انهيار لأي مجتمع أو دولة. الوعي الجمعي في هذه الأرض أقوى من الأصوات النشاز، وأعمق من محاولات الاصطياد في الماء العكر.
وفي الأردن تحديدًا، نحن في نعمة حقيقية. نعمة مجتمعٍ متماسك، يعرف معنى الجيرة، وقيمة الصحبة، وعمق الشراكة. قد يكون اللون الأسود حاضرًا أحيانًا على شكل بعض الالسن العفنة، لكن وجوده لا لينتصر، بل ليذكّرنا بقيمة اللون الأبيض، وبجمال الصورة العامة التي نعيشها.
فالمجتمع المسيحي الأردني يُعدّ من أكثر المجتمعات المسيحية العربية أمنًا وطمأنينةً وعدلًا ومساواة، مقارنةً بكثير من المحيط الذي يعيش للأسف، مآسي واضطرابات.
وبفضل القيادة الهاشمية الحكيمة، يعيش الأردنيون جميعًا، مسلمين ومسيحيين، في ظل دولة تحمي التنوع وتكرّس المواطنة وتضع الإنسان في قلب المعادلة.
لهذا كلّه، آخر ما يهمّ المسيحي هو الضجيج العابر. ما يهمّه حقًا هو هذه الأرض، وهذا الوطن، وهذا النسيج الإنساني الجميل الذي أثبت، مرةً بعد مرة، أنه أقوى من الفتنة، وأبقى من كل الأصوات الطارئة.
لذلك كل عام وكل قلب أبيض ينبض بحب الآخر بخير، كل عام ونحن بخير ، نحبّ بعضنا ، نفرح ونحزن مع بعضنا... فوحدهم الجهلاء من لا يتعلّموا من تجارب الأمم السابقة...