أرقام السياحة تحت المجهر: من يحمي الحقيقة؟
الدكتور رافع الطاهات
30-12-2025 01:57 AM
بينما كانت أنظار الجماهير العربية تتجه نحو بطولة كأس العرب 2025، لم يكن الحدث رياضيًا فحسب، بل نموذجًا واضحًا لكيف يمكن للتنظيم المحترف أن يتحول إلى محرّك اقتصادي وسياحي. فقد قاربت أعداد الجماهير والمشجعين والسياح الذين توافدوا إلى دولة قطر مليوني زائر خلال أقل من عشرين يومًا، وفق ما تداولته وسائل الإعلام والتحليلات المتخصصة.
هذا الرقم يدفع إلى التساؤل المشروع، لا بدافع المقارنة العبثية، بل بدافع القلق الوطني.
فالبترا، إحدى عجائب الدنيا السبع، لم تُسجّل مليون زائر إلا خلال عام كامل، وفي ذروة المواسم السياحية، وفي سنة كبيسة.
الفرق هنا ليس في الموارد، ولا في المقومات، بل في الإدارة، والشفافية، والمحاسبة.
قطاع في غيبوبة… وأرقام في نشوة
في الوقت الذي كانت فيه الأرقام الرسمية تتحدث عن “تعافٍ” و”أداء إيجابي”، كان الواقع على الأرض يقول شيئًا آخر تمامًا.
فقد أُغلقت عشرات الفنادق والاستراحات والمطاعم، وتوقفت مكاتب سياحية عن العمل، وشُلّت غالبية الحافلات السياحية، فيما وجد آلاف الأدلاء السياحيين أنفسهم بلا دخل، رغم أن هذا القطاع يمثل مليارات الدنانير من الاستثمارات الوطنية.
السؤال هنا: كيف يكون القطاع “بألف خير”، بينما مفاصله الأساسية متوقفة؟.
التلاعب بالإحصاءات: عندما تتحول الأرقام إلى أداة نفوذ
الأخطر من حالة الركود نفسها، هو ما كشفته عمليات التدقيق والتحري لاحقًا، حول وجود تلاعب مباشر بمنصة الإحصاءات السياحية، عبر تسجيل أرقام وهمية لا تعكس أي حركة حقيقية على الأرض.
مصادر مطلعة أكدت أن بعض الأرقام المُعلنة لا تميّز بين السائح الحقيقي والزائر، بل وصل الأمر إلى احتساب الأردني المغترب الذي يعود لزيارة عائلته ضمن أعداد السياح، في مخالفة صريحة للمعايير الدولية للإحصاء السياحي.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.
3000 ليلة سياحية في عشرة أيام… من يصدق؟
بحسب المعلومات المتداولة، تم تسجيل ما يقارب 3000 ليلة سياحية خلال عشرة أيام فقط من احد الشركات الأردنية ، وفي فترة يُجمع أهل القطاع على أنها شهر سبات سياحي، لا يشهد حركة تُذكر.
عشرة أيام فقط!
دون حملات،
دون طيران إضافي،
دون إشغال فندقي حقيقي،
ودون أثر ملموس على الأرض.
فمن أدخل هذه الأرقام؟
وكيف تم اعتمادها؟
ومن سمح باختراق منصة وزارة السياحة؟
ولماذا؟
الأخطر أن هذه الأرقام لم تكن بريئة، بل استُخدمت – بحسب المعطيات – لتحقيق منافع شخصية، ولتمكين أشخاص من البقاء في مواقع تمثيلية ونفوذية داخل القطاع السياحي، رغم عدم استحقاقهم لها وفق الأنظمة والتعليمات.
غياب المساءلة… الحلقة الأخطر
في ظل كل ما سبق، يبرز غياب واضح للمساءلة.
فلا بيانات توضيحية،
ولا تحقيقات معلنة،
ولا محاسبة معروفة للرأي العام.
وهنا تبرز تساؤلات مشروعة لا يمكن القفز عنها أو التعامل معها باستخفاف:
ما هو دور معالي وزير السياحة في ضمان سلامة منظومة البيانات السياحية؟
وما هي مسؤولية عطوفة الأمين العام للوزارة في الإشراف والرقابة على آليات جمع واعتماد الإحصاءات؟
وأين تقع مسؤولية دائرة الإحصاءات السياحية، ومن الجهة المعنية مباشرة بإدارة ومراقبة هذه المنصات؟
إن جوهر الإشكالية لا يكمن في الأرقام بحد ذاتها، بل في كيفية إدارة منصات البيانات، وآليات التدقيق والرقابة المفروضة عليها، خصوصًا عندما تسمح الثغرات بتمرير بيانات غير دقيقة قد تُستغل لتحقيق مصالح فردية، وتُحدث أثرًا سلبيًا واسعًا على قطاع سياحي كامل.
فالسياحة ليست أرقامًا… بل اقتصاد وطني، وسمعة دولة، وكرامة قطاع بأكمله.
السياحة ليست بيانًا صحفيًا، ولا رقمًا يُجمَّل لغايات إعلامية.
هي اقتصاد وطني،
وأرزاق عائلات،
واستثمارات عمرها سنوات،
وثقة تُبنى أو تُهدم.
إن استمرار العبث بالأرقام لا يضر بسمعة القطاع فقط، بل يُضلل صانع القرار، ويؤدي إلى سياسات خاطئة، ويفتح الباب أمام مزيد من الانهيار.
ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من التصريحات، بل تحقيقًا شفافًا، ومحاسبة علنية، وحماية حقيقية للبيانات الوطنية، قبل أن يتحول أحد أهم قطاعات الاقتصاد الأردني إلى ضحية دائمة للتلاعب والتجميل الوهمي.
حمى الله الأردن وطنًا، وملكًا، وشعبًا.