في ذكرى رحيل من رفض أن يجوع الشعب الأردني .. سليم المعاني
29-11-2012 12:53 PM
في الثامن والعشرين من نوفمبر عام 1971... كنت اسير مع استاذي خضر قبطان في شارع الهاشمي بعمان متوجهين الى منزله بجبل القلعة... عندما تغيرت فجأة الحركة في البلد... سرعان ما بدأت المحال تقفل أبوابها... والسيارات تسير مسرعة وكأن شططا اصاب سائقيها وهم يولون الادبار دون هوادة... سألنا احد اصحاب المحال: ما الذي يحدث؟.. أجاب رجل طاعن في السن: اغتيل وصفي التل في القاهرة.. !!
ما زلت اذكر تماما أن مندوب التلفزيون الأردني اجرى لقاء سريعاً مع وصفي التل قبيل مغادرته مطار ماركا متوجها للقاهرة عن رأيه بالتهديدات التي تطلق مستهدفة حياته... فرد عليه وصفي فورا // زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا... فابشر بطول سلامة يا "مربعي"... هنا ظن مندوب التلفزيون أن وصفي قد "أقوى" ببيت الشعر فصححه قائلا : " يا مربع" ــ بالضم ــ لانها منادى... فاعاد وصفي التأكيد لا بل " يا مربعي "... وكان يقصد "يا وطني"... وليس اسم "مربع" الشخص الذي عناه "جرير" في مقولته !!
آمل ان تكون المقابلة في ارشيف التلفزيون ــ وأنا اشك في ذلك ــ وأرجح أنها "غيٍبت" الى الابد !!
محطات مهمة تظهر معدن وصفي
أتوقف عند محطات ربما تكون غير معلومة لدى الكثيرين وتلك المحطات المهمة تعكس شخصية وصفي وتلقي ظلالا على القتلة الحقيقيين لرجل دولة أردني من طراز رفيع... ويشكل زعامة أردنية يجمع عليها الجميع ــ أيضاــ بدون أي منازع!!
وصفي... وتهديد السفير الامريكي
يوثق الدكتور محمد الجمل حادثة في غاية الاهمية في حياة وصفي مفادها ان السفير الامريكي خلال حقبة الستينات التقى وصفي التل ابان ما كان رئيسا للوزراء... وأراد السفير ان يهدد بطريقة فيها من المهانة ما فيها عندما قال لوصفي " أنني اذا اردت فبسطرين أجوع الشعب الأردني... " وكان يقصد ايقاف المساعدات الامريكية عنا وخاصة القمح!!
فرد عليه وصفي بشموخ الرجال وكبريائهم: أنت اذن لا تعرف الشعب الأردني!!
وصفي... و"طعج" تهديدات السفير
بعيد الاجتماع مع السفير... توجه الرئيس وصفي فورا للقاء الملك الحسين... ونقل اليه ما دار من حديث مع السفير الامريكي... كما عرض على الملك خطته للرد عليه... فأقره الملك ووافق عليها .
منطق الرجال الأوفياء
شرع وصفي بزيارة مختلف المحافظات والالوية... وبدأ جولته تلك بزيارة محافظة "معان" ويروي الشيخ خشمان ابو كركي عليه رحمة الله تعالى للدكتور الجمل... أن وصفي سأله مع جمع من شيوخ المحافظة... "شو في "كوايركم" ــ ولمن لا يعلم فـ"الكوارة" خزائن كانت في ذاك الزمن الجميل ضمن معظم البيوت الأردنية سيما التي تتعاطى مع الزراعة... أو تعتبر طنيبا للمزارعين ـ- وهي تبنى من الطين لحفظ الحبوب المختلفة كالقمح والشعير والعدس... الخ ـ-
فأجابه الشيخ خشمان : والله فاضية يا باشا!!
رد وصفي باصرار... في الموسم القادم لا أريدها "فاضية" واستكمل جولته على كافة انحاء البلاد .. بعد ذلك... استورد وصفي قطارات من حبوب القمح من سورية ووزعها على المزارعين في مختلف انحاء المملكة لاستخدامها كبذار فزرعوا باسم الله... وكانت من نعم الله عليهم ان هطل الغيث مدرارا... وكان شاملا في ذلك العام... ويروي الدكتور الجمل عن الشيخ خشمان... ان محافظة معان لوحدها كانت كفيلة بسد حاجة السعودية من القمح !!
وهكذا لقن "وصفي" السفير درسا حقيقيا وأكد له أن الشعب الأردني " لا يركع... ولا يجوع " !!
تسمية شارع "الجاردنز " بشارع وصفي التل!!
ابان توليه مهام رئاسة الحكومة الاردنية في 28 يناير 1962 اصطحب اعضاء وزارته الى منطقة قريبة من مول السيفوي بالشميساني حاليا... وكانت منطقة زراعية شاسعة على مد النظر.... تتشكل مما يعرف حاليا بـ الشميساني وشارع مكة وشارع المدينة والرابية وخلدا وتلاع العلي وام السماق وام اذينة والصويفية ودير غبار وعبدون... أشار اليها وصفي وقال مؤشرا بيديه... هذه المناطق ستكون بمثابة "الجاردنز" للاردن!! أي يقصد ان منتجاتها الزراعية ستسد حاجة الاردن وتفيض... ولم يخطر على باله انها ستتحول الى غابات اسمنتية... المهم من هنا جاءت تسمية شارع "الجاردنز" .
وقصة أخرى
كان شقيقي الوحيد "كمال" -رحمه الله ـ- احد رجال الأمن بمعية وصفي خلال رئاسته للحكومة... فقال لي عنه " كان يعرف كل من يعمل بمعيته... ويتفقد احوالهم... وكان يعود كل يوم بعد الساعة الخامسة الى مكتبه بالرئاسة لينجز عمله .. وذات يوم... استدعى سائقه وطلب منه ان يحضر له 5 ازواج من الاحذية من عند محلات القبطي بشارع بسمان... فاحضر سائقه ما طلب... يقول... كنا حوله وهو يسألنا ما الافضل ويقيس بالاحذية... فاختار ثلاثة ازواج منها وسأل السائق: كم ثمن الزوج من الاحذية... أجابه السائق : بثلاثة دنانير ونصف... فاستكثر وصفي الثمن واستهجن ذلك واخذ بالصفير قائلا: شو هالغلاء الفاحش... ثم انقد سائقه عشرة دنانير ونصف .
يوم المظالم
خصص وصفي يوما للمظالم... يلتقي فيه ابناء الشعب ويستمع الى شكواهم واحدا واحدا... ويقضي حوائجهم ضمن الاستطاعة والقانون... ويرد المظالم الى اهلها... كنت برفقة استاذي خضر قبطان عندما تظلم لوصفي ابان حكومته الثالثة التي شكلها في 28 اكتوبر 1970.. واذكر ان التقيناه في آخر لقاء له مع عامة الشعب قبل اغتياله... كان الاستاذ خضر قبطان كفيفا لكنه علامة بمعنى الكلمة خريج كلية الحقوق بدمشق 1962 ولديه شهادات علمية أخرى من القاهرة... لكن طرق التعيين كانت تسد في وجهه لانه اعمى ليس الا... وبدون التأكد من قدراته الخارقة... اذكر انه تقدم الى وصفي باستدعاء طريف للغاية... عنوانه "فيتو"... يستعرض فيها محاولاته للعمل دون جدوى... قرأ وصفى الاستدعاء كاملة... وقال له حرفيا "خالي احنا مش مثل الحكومات السابقة... انت راح توخذ حقك "... فاستبشرنا خيرا... بعدها بـ 3 أيام سافر وصفي الى مصر... وهناك امتدت له يد الغدر...
خلال اصطفافنا للتظلم الى وصفي... وكان يدور على الجميع ويستمع الى مظلمة كل واحد... رأيته عندما نظر الى شخص توجه نحوه وقال له : انت ليش هون... بره... بره .. واخرج الرجل... ذهلت جداً... وقصصت على اخي ما حدث... فقال لي ان ذاك الرجل محتال... والرئيس كاشف أعماله... لذا طرده من مجلسه.
وحادثة أخرى : تظلمت له امرأة امامنا تستعطف الافراج عن ولدها... فأجابها : يا خالة... ابنك متهم بالتجسس لاسرائيل... شو بدو يعملك وصفي... ابنك اعترف بذلك ومدان... " للعلم انا اعرف تفاصيل تلك القصة لكن... احجم عن ذكرها .
وصفي نصير المزارعين
من طرائف وصفي انه كان عائدا من العقبة الى عمان... ابان حكومته الثانية... وقبيل خروجه من معان... وعلى اطرافها الشمالية لاحظ رجلا يقف على الشارع وامامه صناديق من البندورة والزهرة والباذنجان... وخلف الرجل ارض شاسعة مزروعة... خضراء تسر الناظرين وسط الصحراء القاحلة... اوقف وصفي سيارته... وترجل منها متجها نحو الرجل الذي لم يعرفه... قام وصفي وسأل الرجل بمنتهى الاهتمام .. عن احواله... وكان يقلب بين يديه البندورة باعجاب كبير وبسرور بالغ... فقال له الرجل خليني اغسلها لك من الكبريت " وافغمها"... يعني تناولها... فشكره وصفي مصرا على معرفة حاجاته... فلم يطلب منه الرجل شيئا... فقال له وصفي : يا رجل انا رئيس الوزراء... ماذا تريد ان نساعدك... انت تستثمر ارضا زراعية وهذا عمل رائع وجهد مشكور... فاصر الرجل على انه لا يريد شيئا... فمضى وصفي وهو في غاية السرور والحبور مما رأى .. وبالمناسبة فالرجل هو عمي أخ والدي غير الشقيق... كان يستغل الارض مع اشقائه من عائلة "عقيد" ــ بتشديد الياء ــ ولا زالت الارض... ولا زال عمي الهرم الان... لكن ابناؤه وابناء اشقائه هم من يتولون امر المزرعة .
وصفي ومهزلة حزيران 1967
كان وصفي من اشد المعارضين لدخول الاردن في حرب الـ 67 حيث كانت رؤيته اننا غير مهيئين وان هزيمة ماحقة ستلحقنا ان شاركنا في الحرب... كانت رؤية الراحل الملك حسين اننا ان لم ندخل الحرب سنوصم بالعمالة والخيانة... المهم... دخلنا الحرب... وآلت النتيجة الى ما توقعها وصفي... بعيد الحرب عاد الجيش مهزوما... مشتتا... أشعث أغبر... واخذ بالتجمع في منطقة خو بالزرقاء... ولم يكن لدى الجيش ارزاق للمعيشة... بادر وصفي ولم يكن حينها يتولى أي منصب رسمي... بادر وصفي بشراء شوالات من الخبز من مختلف مخابز عمان والزرقاء... واخذ صناديق من الشاي وشوالات من السكر لكي يصنع الجند لهم طعاما يقتاتون به من الشاي والخبز الى ان استردت القيادة توازنها وباشرت بتزويد الجيش بالأرزاق.
وصفي وتقسيط كلفة اعمدة الهاتف!!
وقصة أخيرة عن وصفي... ذكرت سابقا واذكرها ثانية لمن لا يعرفها... عندما شكل وصفي التل حكومته الاولى طلب تمديد خط هاتف ارضي لبيته في منطقة الكمالية القريبة من صويلح غرب العاصمة عمان .. بعد الكشف الفني اتضح ان الخط حتى يصله بحاجة الى ثلاثة اعمدة... وكلفة كل عامود ــ حينذاك عام 1962ــ نحو دينارين... فكتب وصفي " الرئيس" الى وزير المواصلات ان يقسط عليه الكلفة الاجمالية للاعمدة ومقدارها " ستة دنانير " على ثلاثة أشهر بمعدل دينارين شهريا !!
وبعد...
هل هناك من سؤال بعد كل ما تقدم... لماذا قتل وصفي؟