البنوك: من وسيط مالي إلى شريك تنموي
د. يوسف منصور
14-12-2025 11:48 PM
يُعد القطاع المصرفي الأردني واحدًا من أكثر القطاعات المالية استقرارًا في المنطقة، ويُظهر مؤشرات قوية من حيث السيولة، وضعف الديون غير العاملة، ونسبة كفاية رأس المال التي تتجاوز المتطلبات الدولية، ما يرسّخ الثقة فيه كدعامة للاقتصاد الوطني،لكن هذا الاستقرار لا ينبغي أن يطمس سؤالًا جوهريًا: هل يساهم القطاع المصرفي بفاعلية في تمويل التحول الاقتصادي الحقيقي نحو التصنيع، الابتكار، والشمول الأخضر؟.
يضم القطاع المصرفي الأردني حوالى 20 بنكًا مرخَّصًا تعمل داخل الأردن. بلغت موجودات البنوك العاملة في الأردن حوالي 69.85 مليار دينار أردني بنهاية 2024، تمثل حوالي 184.4% من الناتج المحلي الإجمالي للأردن، أي ان حجم الجهاز المصرفي يفوق حجم الاقتصاد تقريبًا بنحو الضعف، وتبلغ ملكية الأجانب في البنوك الأردنية حوالي 55%. كما بلغ إجمالي الودائع لدى البنوك الأردنية نحو 46.7 مليار دينار أردني بنهاية عام 2024، بارتفاع 6.8% عن العام السابق. وسجّلت التسهيلات الائتمانية الممنوحة من البنوك المرخَّصة ارتفاعًا بنسبة 4.2% لتصل إلى 34.78 مليار دينار أردني بنهاية 2024.
يتجه التمويل قطاعيا حسب نشرة بلوم بنك وأرقام جمعية البنوك الأردنية الى كل من قطاع الإنشاءات(24%)، والخدمات والمرافق العامة(16.4%) والتجارة العامة(14.5%) والصناعة(11.6%) والتي تمثل بمجموعها حوالي ثلثي التسهيلات المصرفية. يعكس هذا التوزيع تركيزًا كبيرًا على القطاعات القديمة والمتوسطة القيمة المضافة، بينما يظل تمويل القطاعات الانتاجية عالية القيمة مثل التكنولوجيا والابتكار محدودًا، وهو ما يقلّل من قدرة البنوك على دعم التحول البنيوي للاقتصاد. وهو تحول لازم وضروري لربط معدلات النمو بمعدلات البطالة بشكل أكثر كفاءة وتحقيق معدلات نمو ذكية تؤدي الى تسارع معدلات نمو الإنتاجية وارتفاع الدخل الحقيقي للمواطن.
كما تشير دراسات موثوقة للوكالة الألمانية للتعاون الدولي إلى تدني نسبة الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تمتلك قرضًا بنكيًا (17.2%من الشركات الصغيرة و18.0% من الشركات المتوسطة). بمعنى آخر، هناك فرص تمويل غير مستغلة بشكل كافٍ، رغم أن من الممكن لهذه الشريحة من الشركات أن تلعب دورًا أساسيًا في التشغيل والابتكار.
إلى جانب ذلك، أشار تقرير البنك المركزي الأردني إلى برامج تمويل خاصة تستهدف هذه الشريحة، بقروض ذات آجال مرنة وشروط ميسّرة وقيمة إجمالية تصل إلى نحو1.4 مليار دينار، أي حوالي 5% من إجمالي التسهيلات البنكية. رغم ذلك، ما يزال الرقم المتاح غير كافٍ إذا ما قورن بحجم الطلب المؤكد على التمويل من قبل الشركات الصغيرة والمتوسطة.
أحد أبرز التحديات في القطاع المصرفي الأردني هو التركيز على الأوراق المالية الحكومية مثل أذونات وسندات الخزينة. بينما توفر هذه الأدوات أمانًا للبنوك، فإنها في الوقت نفسه تُحجّم الائتمان الموجه إلى أنشطة إنتاجية أو ابتكارية. ببساطة: القطاع المصرفي يمول الدين الحكومي أكثر من تمويل المشاريع طويلة الأجل التي تخلق قيمة اقتصادية حقيقية.
تُظهر جهود البنك المركزي الأردني لوضع استراتيجية للتمويل الأخضر 2023–2028 اعترافًا رسميًا بأهمية توجيه الائتمان نحو المشاريع المستدامة، مثل الطاقة المتجددة وكفاءة استخدام الموارد. كما يُعدّ برنامج ضمان التمويل الأخضر الذي أطلقته الشركة الأردنية لضمان القروض لتحفيز البنوك على تمويل المشاريع الصديقة للبيئة خطوة هامة نحو دعم التحول الأخضر. وبالرغم من ذلك، تشير دراسات للبنك الدولي إلى أن حصة القروض الخضراء في المحافظ البنكية التجارية لا تتجاوز 2% تقريبًا وهو رقم ضعيف بالمقارنة مع الإمكانات والاحتياجات المناخية.
إن قراءة هذه البيانات تؤكد أن القطاع المصرفي يجب أن يتحول من وسيط مالي الى شريك في التنمية، لا يعمل كمجرد ناقل محايد للائتمان، بل كصانع قيمة
اقتصادية واجتماعية والتحول من التركيز على الأمان وحفظ القيمة إلى خلق قيمة حقيقية. يتطلب هذا إعادة توجيه جزء مهم من الائتمان نحو الابتكار والتكنولوجيا، وتعزيز أدوات تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة النوعية، وتوسيع أدوات التمويل الأخضر عبر حوافز تنظيمية وتأمينات مخاطر، وربط الحوافز البنكية بأهداف وطنية واضحة مثل التحديث الاقتصادي والتشغيل الخلاق.
يمتلك القطاع المصرفي الأردني أساسا صلبا للعب دور محوري في تمويل التحديث الاقتصادي، لكن ذلك يتطلب تحولًا في الحوكمة، والحوافز، وأهداف التمويل ذاتها.
"الرأي"