facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




عندما تموت الفراشات


لارا مصطفى صالح
14-06-2018 11:28 AM

فضولية أنا منذ أن كنت صغيرة وحتى بلغت عامي الثاني والأربعين. لا أستطيع مقاومة الإستماع إلى الأحاديث من حولي.

وأميل لتقصي المعلومات إذا ما استعصى علي فهم القصة. ولست من النوع الذي يستطيع الصبر، ربما أسهمت أقوال من حولي بأنني زنانة في تحويل تلك الصفة إلى ميزة. (لارا ما عرفتيلنا شو صار، لارا شو قصة فلانة، لارا المدرسة شو عملوا بالموضوع الفلاني.. إلخ). كان علي أن أبذل جهدا في تحري الحقائق!

في العام 2003 جمعني العمل بصديقة، كان لقبها في الشركة (الفراشة) لشدة حيويتها ورقتها. شاء والدها ألا تستمر بسبب المسافة الجغرافية بين منزلها الواقع في محافظة السلط ومقر العمل الواقع في جبل الحسين.

عاشت الفراشة في منزل محكوم بالسلطة الذكورية، كان الأب متسلطا عنيفا، بيد أنه كان يشعر شعورا قويا بواجبه في تعليمها و(تستيرها) فقط! ولم يكن هو وحده من يملك زمام الأمور، فقد كان لها أربعة من الإخوة ماركة (سي السيد) بنسخته الأردنية. فلا تخرج الأم إلا بإذن ولا تغيب هي عن البيت بعد الغروب خوفا من العقاب.

قامت يوما بعد تركها العمل لتعد البطاطا المقلية، فهبت النار فيها، واشتعل جسدها. حاولت أن تطفئ نفسها أولا، وعندما لم تنجح استنجدت بأهل البيت، صرخت، لكن لم يدركها أحد إلا وهي شعلة من النار. ثم فارقت الحياة.

كان لنا صديقة مشتركة، جميلة جدا، لها عينان ضاربتان إلى السواد، تفيضان طيبة، متى نظر إليها أحد ردت بابتسامة مصطنعة، وكانت لها مشية قلقة. وكما لم يجتمع الحب والحقد في قلب عاشق، لم يجتمع الفرح والضحك على محياها يوما. غير أن الطابع الذي كان يميزها فعلا عشقها للبكاء. إن حزنت بكت وإن فرحت -ذات صدفة- بكت. لا يعوزها الذكاء، بيد أنها لم تحترف صناعة الحياة، واستسلمت لكابوس العنوسة، ولم تعد تتوسم من الدنيا سوى فارس، حتى وإن كان بلا جواد. فور سماعها نبأ وفاة الفراشة، هاتفتني وهي تبكي بشدة.

- اليوم رح يدفنوها متى بدك نروح؟

- اليوم.
- معقول .. الفراشة تموت حرق! طيب ليه ما لحقوها ليه!
- أنداري.... هذا الكوكب كله بده حرق.
- لا، لارا، كله! بدي أتزوج طيب قبل ما ينحرق!
- الله يصبرني!

وصلنا إلى المنطقة التي كانت تعيش فيها الفراشة، بدت المقبرة لي من بعيد أثناء مسيري في السيارة. جمع من الرجال كانوا يحملون جثمانا، أوقفت السيارة، لأراقب ما يحدث، لم أر من قبل دفن ميت. أنزلوا الجثمان إلى الحفرة، وبدؤوا يهيلون التراب فوقه، معاول كثيرة بدت تردم القبر على عجل، حالة من الذهول عمت المكان عندما وقف رجل يبدو عليه الوقار على القبر، رفع رأسه وقد تقلص وجهه وتشنج عنقه، وكأنه ذئب يستعد للعواء، غطى وجهه براحتي يديه وأجهش بالبكاء، كان ذلك الرجل والدها! أمسك بيده رجل آخر وأبعده عن القبر، تركوها لوحدها ومضوا. ومضيت أنا أيضا ومعي صديقتي وقد تلونت ملامح وجهها وبدا عليها فزع يستعصي على الوصف. وصلنا إلى منزل الفراشة، المقام على ربوة عالية في مدينة السلط، كانت السيدات يجلسن على مقاعد حمراء تم استئجارها، عدا أم الفراشة، التي خصصت لها مقعدا مختلفا في زاوية الصالة. بعض السيدات كن يتحدثن بصوت يسمع بالكاد. والبعض كن يثرثرن بصوت عال. علا صوت إحداهن، إذ قالت:

- الله يرحمها، والله لا يوجه له الخير الي دعسها!

- دعسها؟ قلت بصوت عال ممزوج برنة استهجان، ولم أتمالك تفسي، فقاطعتهن، مين الي اندعس؟

- ردت أخرى باستغراب، المرحومة!

هم مَش حكوا هبت النار فيها؟ قالت صديقتي بدهشة. وأجهشت بالبكاء حتى سمع من في المكان نشيجها، هي لم تكن تبكي الفراشة بالمناسبة. بل كانت تبكي حظها، كالعادة.

انطلقت أحاديث جانبية أخرى في المكان وأخذت أشكالا مختلفة، فتارة (نامت وما قامت انجلطت صبية يا ويلّي عليها) وتارة (وهي تقطع الشارع دعسها واحد مسرع بسيارته وهرب وما لحقت توصل المستشفى). بيد أن الشكل الأكثر تداولا هو أن النار هبت فيها أثناء قلي البطاطا.

قلت لصديقتي أشعر بشيء مريب حول وفاتها، لقد أخبرتني قبل أسبوع أنهم حرموا عليها الخروج من المنزل عقابا لها لأنها تأخرت في العودة إلى المنزل. سوف أسأل أمها. غمزتني بعينها أن ( إهدئي) واسمعي الشيخة شو بتحكي الله يهديك يا لارا). وعادت للبكاء، هوايتها الأثيرة!

وكانت الشيخة بحسب تعبير صديقتي، سيدة في منتصف العقد الخامس، ترتدي لباسا فضفاضا أسود اللون، مخصص للصلاة، كانت تكثر في حديثها من ذكر الموت وتقلل من قيمة الدنيا وزخرفها، وتحكي قصصا عن الجنة والنار والقبر وعن ضرورة الالتزام بالحجاب .. إلخ من كل ما هو متعارف عليه من أحاديث اعتدنا أو بالأحرى أجبرنا على سماعها في هذه المناسبات التعسة.

بديش أسمعها.. قلت.. بحبش هاي القصص أنا، شو الله جابرني أسمع شي ما بدي أسمعه... ومين سمحلها تحكي أصلا! وعلى الرغم أنها (الشيخة) شعرت باستيائي إلا أن هذا لم يثنها، واستمرت في حديثها بل ازدادت نبرة صوتها حدة وكأنما توبخني.

ثمة أمور تحدث في هذي البلاد، يشعر المرء معها أن زمن الجاهلية لم ينته بعد. هل تراهم قتلوها؟ هذا الإحتمال مرعب حقا. لكني لا أستبعد شيئا عن هذه العائلة الغاشمة والله!

لم أدر ما الذي جرى لي، في تلك اللحظة التي راودتني فكرة القتل فيها. دهمني إحساس مفزع، ولم يخطر لي سوى الهروب من هذا المكان الظالم أهله، حينها، كنت متشبثة بالحياة، وأخشى الموت كثيرا. ما أغباني!
غادرنا المكان صديقتي وأنا، كان الظلام حالكا، ركبنا السيارة، لكن القلق استبد بي أكثر. في الحقيقة لقد بت مصرة على سؤال الأم. نزلت من السيارة وعدت إلى مكان العزاء.

- خالتو، أنا حاسة فيك، بس بترجاك إذا في شي مخوفك احكيلي بساعدك! مهو مش معقول، كل ناس بيحكوا قصة، هي كيف ماتت؟ حرق ولا دعس ولا جلطة في شي مَش صح!

- معك حق، لكن ليس لدي تفسير... صمتت قليلا وأردفت بصوت راجف... وبعدين شو اللي بده يخوفني؟!

بعدما أنهت جملتها، تأملتني طويلا، كانت تتعقب ملامح وجهي كمن ينتظر معجزة من السماء، ثم رشقتني بنظرة غضب، وأشاحت بوجهها عني وبكت بحرقة
ما الذي يبكيها؟





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :