محمود درويش .. على هذه الأرض ما يستحق الحياة .. بقلم : منال عبد السلام القطاونه
27-08-2009 06:44 PM
محمود درويش ... الشاعر الذي قاوم الموت وهو يصّر على الحياة عبر بوابة القصيدة الموشـاة بالأمل.... فكان أن مات بعد ان ترك أسئلته الوجودية مفتوحة على أساه الدائم وشرايينه المعطوبة ... وقصيدته التي جعلها عنوانا للوطن وللإنسان.. فصارت اسما له ،وهوية لوجوده .
في مثل هذا الشهر قبل عام واحد رحل عنا محمود درويش يوم السبت 9 آب 2008م بعد 67 عاما من حياة دأب ينتقل فيها من قمة إلى أخرى أعلى منها
،دون كلل او ملل . في مثل هذا الشهر قبل عام واحد توقف قلب الشاعر محمود درويش اثر عملية جراحية خضع لها في إحدى مستشفيات مدينة هيوستن في الولايات المتحدة الأمريكية ... وعلى الرغم من أن درويش قد خضع لمشارط الجراحين مرتين قبل ذلك ... وفي كل مرة كان يعود للحياة بعد ان يقف على حافة الموت...اعتقدنا انه سـيهزم الموت كما هزمه في مرات سابقة ، لكنه بعينه الثاقبة رأى على ما يبدو شبحه " قادماً من بعـيد " فكان موته النهائي وكان انتصاره المكتمل وكانت قصائده التي لا يريد لها ان تنتهي وظلت جداريه القدر في غياهب الموت .
درويش موهبة استثنائية قاومت المحتل في ما تحمله من تراث أنساني استمده من ارض كنعان ،ومن لغة فاتنة لا تخص أحدا سواه ... لغة أصبحت نهرا ينهل منه الشعراء في زمان ومكان امتلكهما درويش وأنتج قصيدة عن الوجود والجرح الفلسطيني .
الشاعر محمود درويش هوية إنـسانية بامتياز ... يتجسد فيها الوطن والحياة بحسه النضالي والثوري المفعم بروح وطنية وقومية عارمة وعقيدة راسخة في نفسه.....
وشـاعر يختزن الـتاريخ في مفردات اللـغة التي ينحتها بأزميل فنان مدهـش.جعل من أبيات شعره أغنية للأمل... وللحياة،وللإنسان في كل مكان... من دون ان تنتهي او تتخلى عن هّم الوطن والذي هو بالنسبة له البيت والقلب والعقل والروح والسماء والوجد والحبيبة .
فشاعرنا محمود درويش من طينة المبدعين الذين " تُهنَّأ " بهم الجوائز قبل أن يهنّؤوا عليها.
بدأت قصيدة الشاعر الفلسـطيني درويش جرحا مفتوحا على تضاريس وطن سليب ورصاصة مّدوية في صدر عدو شرس غادر وظلت هكذا إلى أن صنعت له اسمه الكبير الشامخ في ديوان العرب ولدى جمهور الشعر الذي صفق طويلا لصدى المفردات وصهيلها العنيف. بات صوته الذي يمجد الحياة، سيبقى مدوياً فوق قمم الزمن يعلن انتصارات الروح، وخلود الشعر.
ولد هذا الشاعر في قرية البروة الفلسطينية يوم الثالث عشر من مارس عام 1941م / وفي عام النكبة 1948 لجأ مع أسرته إلى لبنان ، وبقي هناك عاما واحدا قبل أن تعود العائلة إلى فلسطين حيث استقر في قرية الجديدة بالقرب من قريته الأم والتي كانت قد تحولت على يد الاحتلال الإسرائيلي إلى مستوطنة يهودية .
أكمل الشاعر درويش تعليمه في فلسطين وعمل بالصحافة منتشيا برائحة القصيدة التي صارت همه وموهبته ،كما وعمل في مؤسسات النشر وأسس مجلة الكر مل وبعض المطبوعات الأخرى .
فلم يسلم من مضايقات السلطات الإسرائيلية ، حيث اعتقل أكثر من مرة ، لكن الاحتلال لم يستطع"اعتقال قصيدته"التي بدأت تصير " أقوى " من الرصاصة وأمضى ، فاتسعت روحه من خلالها ، وصار حنينه الى قهوة امه وخبزها وهو في السجن أغنية لجميع المعتقلين في سبيل الوطن والحرية . .. وتسامت قصيدته لتحتوي العالم كله وتحولت قلبا نابضا للقضية الفلسطينية وبعدها تحولت لتصنع من القضية قلبا لها . وتسري اشعاره في حجارة كل فلسطيني كان يرى درويش صوته الذي يصدح في أرجاء العالم.
شاعرنا درويش قاوم بشعره اشد طقوس الموت ، من قتل ،وإبادة،وتشريد ونفي،وتجويع،وتنكيل،واعتقال،وتصفية،ومصادرة وتجريف ،وطمس للهوية والثقافة ... ومع ذلك عقد العزم ان يجعل من فلسطين هوية للحرية وكلمة للأمل ، وميثاقا للحياة ..
فلم يكن درويش وهو الشاعر الذي يتنفس الشعر ليرضى بوظيفة ضيقة لقصيدته تحت ظلال القضية الوطنية وحدها ، بل صارت القضية رئة للقصيدة معلنا فيها انتصارات الروح وخلود الشعر .
توفي محمود درويش في اليوم التاسع من اغسطس عام 2008م ،في الولايات المتحدة الأمريكية ودفن في رام الله تحت يافطة كتب عليها عبارته الشعرية " على هذه الأرض ما يستحق الحياة " مدركا أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض...
نعم توفي درويش ومازال لديه " الكثير ليقوله " ولكن ظلت كلماته خضراء في قلوبنا،ووجداننا .
رحم الله الشاعر درويش، الشاعر الذي كنا نلاحقه من مكان إلى آخر لنتعلم منه كيف يكتب النص المغاير.. ولعله الآن رأى الموت ليعرف حقيقته.
أخيراً ذهب محمود درويش.. وحيداً مرة أخرى، مبتسماً ووسيما كعادته، تاركاً لنا عبء كتابة حزننا على الفقد
ولأننا لا نريد لقصيدة درويش ان تنتهي ارتأيت ان نتذكره في الذكرى الاولى لرحيله من خلال سطوري المتواضعة .
manal_qatawneh@yahoo.com