بوجدور وحديث الرمال والذكريات
مصطفى القرنة
07-12-2024 06:07 PM
عندما بدأنا السير في اتجاه مدينة بوجدور، التي تقع إلى الجنوب من مدينة العيون، كانت الرمال قد غطت كل ما يمر بها من آثار بشرية، وأصبحت الطريق، التي كانت معالمها واضحة لحظات مضت، تختفي شيئًا فشيئًا تحت وطأة هذه الرمال . كانت الرمال تحضر من المحيط، وكأنها تخرج من أعماق البحر لتغطي الشارع وتبتلع كل أثر للحياة في تلك اللحظات، فتغدو كل الأشياء محجوبة تحت سطوتها. وكان الصوت الخافت للعجلات وهو يمر فوق الأرض الرملية ينعش ذاكرتي بمشاعر غريبة، وكأنها أصوات غير مرئية، أصوات من عالم آخر.
"إنهم هنا، الجان، يعيشون في هذه الرمال، يختبئون بين ذراتها"، قال المرافق بتلك الثقة التي تثير الدهشة ، وأكمل حديثه عن كائنات لا تظهر إلا في الظلام، تتنقل بين كثبان الرمل، خفية، لاهثة وراء الرياح، تختبئ في جيوب الزمن التي تبتلع كل شيء. تخيلت في تلك اللحظة أنني وسط قصة مليئة بالأسرار، حيث تكون الرمال هي اللغة الوحيدة التي يتحدثها الجميع ، وهي التي تروي لنا حكايات وأسرار من زمن آخر.
على الجهة الأخرى، كان المرافق الآخر يروي لنا عن تيار الكناري البارد، ذلك التيار الهوائي الذي يمر عبر الصحراء مع الصباح الباكر، حاملاً معه رائحة البحر وعبير الأرض المالح. قد لا يشعر به الجميع، لكنني كنت أستطيع أن أشمه في الهواء، كان باردًا ويمنح لحظة من الانتعاش وسط حرارة الصحراء القاسية، كما لو أنه هبة من الطبيعة لتخفف عن كاهلنا.
لكن، في تلك اللحظات، كنت أرى ما وراء الرمال، أرى كيف تتراقص الأمواج الذهبية بينها كما لو كانت أرواحًا تعيش في أعماقها، تحكي حكايات الصحراء على لسان كل ذرة رمل. إنني لا أرى فقط الرمال تغطي الطريق، بل أرى حلمًا يتشكل أمامي، حلم امرأة من الجان، جنية في قلب هذه الصحراء، تتنقل بين الكثبان بمهارة فائقة، تترك وراءها أثرًا من السحر والغموض، تراقبنا من بعيد، تراقب هذه السيارة التي تسرع في الطريق إلى مدينة بوجدور.
تخيلت تلك الجنية ، وسمعت همساتها في الرياح، في تلك اللحظات السكونية بين لحظات العجلة. كان الوقت يتسارع، مثل السيارة التي تأخذنا نحو بوجدور، المدينة التي أطلقوا عليها اسم "مدينة التحدي". مدينة نشأت في قلب الصحراء، في بيئة قاسية لا ترحم، لكن هذه المدينة استطاعت أن تنمو، وتكبر، وتزدهر وسط التحديات التي يفرضها هذا المكان، وكأنها تمثل قصة إصرار وكفاح الإنسان في مواجهة الطبيعة القاسية.
رغم أن الرمال كانت تغطي الطريق وتبتلعها، إلا أنني شعرت أن هناك نوعًا من القوة الغامضة التي تجعلنا نستمر في المسير. كانت مدينة بوجدور تلوح في الأفق، كأنها واحة صغيرة وسط بحر من الرمال. ومع كل ميل نقطع، كانت القصة تتطور في عقلي. كنت أرى الجنية التي تجلس على حافة الكثبان، تراقبنا عن كثب، تتأملنا كما لو أننا كنا جزءًا من حلمها، جزءًا من تلك الأسطورة التي تتوالد في الأذهان بين السكون والحركة.
كنت أستشعر كيف أن الرمال، رغم صمتها الظاهري، تحمل قصصًا لا تعد ولا تحصى. قصصًا عن أجيال سابقة عاشت هنا، عن جنات تسبح بين الرياح، وعن صراع الإنسان مع هذه الأرض الصماء التي لا تذرف دموعًا، لكن بإمكانها أن تكون أقسى مما يتصور الإنسان.
وصلنا إلى بوجدور أخيرًا، المدينة التي حُبِست في جغرافيا قاسية، لكنها أصرّت على أن تظل حية، أن تظل متجددة. وأنا، بينما أترجل من السيارة، لم أستطع التخلص من هذا الشعور بأن الصحراء لا تزال معنا، أن الرمال ستظل تهمس بأسرارها في كل زاوية، وستظل الجنية، تلك الكائنات التي تخفيها الرياح، تراقبنا من بعيد، كما لو أنها جزء من هذه المدينة، جزء من هذه الأرض التي لا يمكن لأحد أن يفهمها بالكامل.
هكذا، تركتني الرمال وأنا أبتسم في نفسي، وكأنها أرادت أن تقول لي: "لقد مررت من هنا، لكنك لم تفهم كل شيء بعد".