لا اظن ان العالم الجديد شهد او سيشهد زعيما او رئيسا يشبه دونالد ترامب، فهو شخصية غريبة تحمل سمات لا تشبه تلك التي يتحلى بها الساسة ولا المهارات التي يجري التدرب عليها في معاهد القيادة ويحاول التحلي بها كل من يحترف العمل السياسي او يتطلع الى ان يصبح رئيسا او زعيما او قائدا .
صحيح ان العشرات من الشخصيات التاريخية التي احدثت فرقا في واقع شعوبها حملت طموحا مثل الذي يحمله ترامب فهناك الكثير من الملوك والامراء وقادة الانقلابات العسكرية والاباطرة الذين غلبوا مصالح بلدانهم على كل شيء وتجاهلوا العالم وما فيه، لا بل ان بعضهم أراد أن يبيد العالم ليبقى هو ومن هم على شاكلته.
المدهش ان ترامب جاء كخيار لعملية انتخاب ديمقراطية وبأصوات غالبية ظنوا انه الخيار الاسلم في هذه الحقبة التاريخية، اختاروه وهم يعرفون انه يزدري كل الممارسات الديمقراطية ويملك شهوة عارمة للانفراد بالقرار ويتطلع الى ادارة البلاد والعالم باسلوب يختلف تماما عن كل ما اعتادت عليه اميركا وما يمكن ان يفكر به الغير ويرفع شعار " أمريكا اولا ، فلنعيدها الى اوج عزتها " .
السؤال الكبير الذي يثيره هذا الاختيار يتعلق بموقف الامريكيين خاصة والغرب عامة من الديمقراطيات اكثر من اختيارهم لاشخاص تحوم حولهم شبهات الخروج على القوانين ولا يتورعوا في الانقلاب على كل السياسات التي كانت نتاجا لعمل جماعي ودبلوماسية نشطة لعقود.
الانسحاب من منظمة الصحة العالمية واتفاقية المناخ ومطالبة دول العالم بالجزية وتهديد الدول العظمى بالمقاطعة وتجميد ألمساعدات لحين المراجعة ووقف منح الجنسية للمواليد الجدد والمباشرة بترحيل كل من خالف قوانين الهجرة وغيرها من القرارات والمراسيم التي تشكل انقلابا على السياسات المعمول بها أمرا يبعث على الخوف والاثارة والقلق .
في كل ارجاء العالم يراقب الجميع ما يقوم به الرئيس الامريكي المنتخب لفترة رئاسية ثانية بكثير من الحذر والشكوك واحيانا الخوف، فهو جريء حد المخاطرة وجاد فيما يقول وجاهز للذهاب إلى أبعد ما يمكن تخيله وهو على قناعة بأن لا أحد يملك القدرة على منع ما سيتخذه من قرارات وله حليف يسيطر على ٨٠% من الأقمار الصناعية التي تجوب الفضاء " ايليون ماسك".
بعض ما يقوله ترامب منطقي ومبرر ويرحب به الجميع والبعض الاخر صادم ومتناقض وغير مفهوم ففي الوقت الذي يقول فيه انه سينشر السلام ويحل الصراعات يعلن ان لديه تصورا سيفرضه بالقوة .
العرب الذين لا يزالوا يؤمنون بالحق العربي غير مطمئنين لما يخطط له ترامب وما سيقوم به فتاريخه يشي بان الرجل منحاز للكيان الاسرائيلي ويود استخدام القوة والتهديد لدفع الجميع بقبول الاستسلام لارادة الاحتلال سواء في التسويات المتعلقة بالاراضي او التطبيع من قبل من وصلوا الى عتبة هذا القرار .طمن العرب .
لقد اعتبر ترامب العديد من التنظيمات والقوى الشرق اوسطية المقاومة لإسرائيل جماعات إرهابية وأقدم على رفع الحظر عن الأسلحة الأخطر التي كانت الادارة السابقة قد علقت تصديرها للكيان كما اعفى مستوطنين ارتكبوا اعمال اجرامية بحق الفلسطينين في الضفة الغربية من العقوبات التي كانت قد فرضت عليهم .
في الوقت الذي يطالب ترامب السعودية وبلدان النفط وحتى الدول الاعضاء في حلف الناتو بدفع اثمان وتكاليف وقوف الولايات المتحدة الى جانبهم بالتزامن مع إقرار تجميد المساعدات والدعم الذي تقدمه بلاده لبعض الدول والمنظمات .
في نية الرئيس الامريكي الجديد مراجعة شاملة لفكرة المساعدات و الدعم الامريكي لدول ومنظمات في العالم بنية وقفه او تقليصه او تغيير صيغته، وأظن ان هذه السياسة رشيدة وحكيمة ومبررة .
المشكلة تكمن في معايير التقييم التي ستستخدمها الادارة الجديدة وفي كيفية استقبال الجهات التي كانت تتلقى الدعم لهذا القرار وكيف سيؤثر على اوضاعها وعلى ادارتها لشؤونها وهل بمقدورها ان تمضي وتستغني عن هذا الدعم .
الرئيس ترامب لا يعطي اهمية للتقاليد ولا للتاريخ فهو رجل براجماتي يحسب قيمة الأشياء بحسابات الربح والخسارة ويرى ان من الممكن عقد صفقات آنية تتجاوز التاريخ والتراث والجغرافيا، وهو يحب الأقوياء ولا مكان للعاطفة او حتى التعاطف مع الضعفاء والمستكينين.
الأردن واحدة من الجهات التي تلقت ولا تزال تتلقى الدعم الامريكي والذي يشكل اكثر من ١٠% من قيمة الموازنة السنوية، هذا الدعم الذي أصبح مصدرا اساسيا من مصادر تمويل الإنفاق منذ ما يزيد على ستة عقود .
الدعم او المساعدات التي تتلقاها بلدان العالم لا تأتي من فراغ فهي ليست عطايا ولا منح ولا مكارم بل هي جزء من المدفوعات التي تقوم بها الدول المانحة لتعزيز وجودها وخدمة مصالحها وتوسيع دائرة نفوذها وتأثيرها .
فالولايات المتحدة تدعم إسرائيل بمبالغ ومعدات وتجهيزات وتوفر لها التكنولوجيا والحماية والتغطية السياسية لا كرما ولا منة بل لأن إسرائيل تخدم المصالح الامريكية في المنطقة سواء برفع وتيرة التهديد لدول المنطقة او للوقوف في وجه القوى والتيارات التي تهدد المصالح الامريكية او من خلال استعدادها لكل ما يطلب منها نيابة عن الولايات المتحدة .
كما تدعم الولايات المتحدة مصر كجارة لإسرائيل كانت أول من وقع معها معاهدة سلام وتبنت سياسات ابعدتها عن الاتحاد السوفيتي في الزمن الذي كانت الشيوعية تقلق النظام الراسمالي الغربي ويحاول الغرب ان يمنع تمدد الشيوعية ووصولها الى بلدان أفريقيا وغرب اسيا .
الأردن الذي كان مهما للولايات المتحدة كبلد وصف بالوسطية والاعتدال خصوصا وهو يجاور الكيان الاسرائيلي ويقع في الجغرافيا الفاصلة بينه وبين الانظمة العربية المعادية اقام علاقات اقتصادية مع الولايات المتحدة منذ الخمسينيات و ظل قريبا من المعسكر الغربي يعتمد بدرجة كبيرة على ما تقدمه لموازنته من مساعدات يواجه اليوم تحديات جديدة لا يعرف بدقة كيف ستتطور ولا مدى انعكاساتها على الواقع والمستقبل .
فمن المنظور الاسرائيلي لم يعد الاردن البلد العربي الاكثر وسطية واعتدال فهناك مجتمعات وقوى عربية قطعت اشواطا كبيرة في التقارب مع اسرائيل ووصلت لدرجة ترى فيها الاردن كعقبة في وجه مزيد من التقارب والاندماج الاقتصادي .
الخطاب السياسي الاردني أصبح مقلقا للكثير من الساسة الاسرائيليين والجماعات اليمينية وهي تقود جهود تحريضية تهدف الى زعزة الاستقرار وتغيير النظرة للاردن كدولة ملتزمة الى بلد يمكن ان يقف في وجه مخططاتهم التي يرون ان الوقت مواتيا لتنفيذها .
الخوف في هذا التوقيت ومع الترويج لفكرة صناعة شرق اوسط جديد تتحكم فيه عقلية الصفقات وتتراجع اهمية القيم والحق والعدل ان يجري تهميش للدور الاردني او ان يتم القفز عنه بحجة أن لا اهمية اقتصادية له ولا ميزة نسبية لما يمكن ان يقوم به من أدوار.