facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حين يُكتب الظُلم بحبر القوة


أ.د سلطان المعاني
09-02-2025 08:44 AM

التاريخ سجلٌ الأحداث الماضية، وأرشيفٌ يُفتح عند حاجتنا إلى العبرة، ولكنّه أيضاً، كائن حيٌّ يتنفس في الحاضر، يعيد تشكيل نفسه وفق متطلبات الواقع، لكن جوهره يظل ثابتًا؛ فهناك دائمًا من يكتب التاريخ، وهناك دائمًا من يُمحى منه، وكما هو الحال في كل قصةٍ تُروى، لا يُسمع صوت الضحية إلا إذا قرر الأقوياء أنه يستحق أن يُسمع. أما المذابح التي لا تخدم أجندة أحد، فتموت بصمت، وتمضي كما لو لم تكن، لأن الحقيقة في هذا العالم نسبية، تُحدَّد وفق مصالح من يملكون السلطة، لا وفق عدالة الأحداث.

إنها لعبة قديمة تتكرر، لعبة إعادة التدوير، حيث تتغير الأسماء والجغرافيا، لكن المشهد يبقى نفسه: قاتلٌ يبرر جرائمه، وضحيةٌ تُدان حتى في موتها، وعالمٌ يوزّع الإدانات وفق موازين القوة لا موازين العدل. هذا ليس منطقًا عابرًا، بل هو النظام الذي بُنيت عليه الحضارات منذ أن وُجدت السلطة، حيث تكون القوانين مرنة حينما يتعلق الأمر بمن يملك النفوذ، وصارمة حين تُطبّق على من لا حيلة له. القتل في هذا العصر لا يُقاس بعدد الضحايا، بل بموقعهم السياسي، فالدماء ليست متساوية، والحياة نفسها تخضع لتصنيفات خفية، حيث يصبح البعض "إنسانًا كامل الحقوق"، بينما يُعامل الآخر كمجرد تفصيلٍ زائد، وجوده أو عدمه لا يغير ميزان القوى.

من يقرأ التاريخ ببراءة الطفل، يظن أن المجازر تحدث حين ينفلت العنف، وأن الظلم هو لحظةٌ عابرة تُرتكب في غفلة من الزمن، لكنه لا يدرك أن العنف ليس خللًا، بل هو أداةٌ سياسية، وأن الظلم ليس انحرافًا، بل هو جزءٌ من المنظومة نفسها. الأمم التي تدّعي أنها وصلت إلى قمة التحضر، لم تتخلَّ عن أدوات القمع، بل صقلتها، وأعطتها أسماءً جديدة، وجعلتها أكثر قبولًا في الخطابات الدبلوماسية. لم تعد هناك حاجة إلى الغزو العسكري المباشر، فهناك الحصار الاقتصادي، والتحكم في الموارد، وصناعة الأزمات، وكلها وسائل أكثر كفاءةً من الجيوش، لأنها لا تثير الضجيج، ولا تُعرّض القاتل للمساءلة.

ومما يجعل هذا العصر أكثر خطورة من أي وقتٍ مضى، هو أنه بات يتقن فنّ التبرير، وصار يُنتج الجرائم مغلفةً بالشرعية القانونية، ويديرها بخطابٍ عقلاني يُقنع حتى الضحايا بأن موتهم كان ضرورةً من ضرورات الأمن القومي، أو الإصلاح الاقتصادي، أو الاستقرار الدولي. لهذا السبب، لا يُحاسَب أحد، ولا يُدان أحد، لأن الجريمة حين تُرتكب ضمن إطار النظام، تصبح فعلًا مقبولًا، حتى لو كان الثمن شعوبًا بأكملها تُباد أو تُشرَّد.

إن من يراقب الأحداث دون أن يغوص في أعماقها، قد يقع في فخّ الاعتقاد بأن كل هذا يحدث بسبب الفوضى، أو أن العالم ببساطة غير عادل، لكنه لا يدرك أن هذه الفوضى مصنوعة، وأن الظلم ليس نتيجة غياب النظام، بل هو النظام نفسه. فلا شيء يحدث بالصدفة، ولا مجزرة تقع دون أن يكون هناك تخطيطٌ مسبقٌ لها، سواء بالتحريض عليها أو بالصمت عن وقوعها. التاريخ يخبرنا أن القتلة لم يعملوا وحدهم، بل كان معهم دائمًا شركاء، متواطئون يرتدون أقنعة الحياد، وقضاةٌ يعرفون الحقيقة لكنهم يختارون أن يغضوا الطرف، لأن العدل في عالمٍ محكومٍ بالقوة ليس أكثر من كذبةٍ جميلة تُستخدم لتجميل القبح، لا أكثر.

هذه ليست سوداوية، بل هي قراءةٌ واعية للمشهد، لأن من يعتقد أن العالم يمكن أن يُدار وفق مبادئ مثالية، لم يفهم بعد كيف تعمل السلطة، ولم يدرك أن القوة هي التي تصنع الأخلاق، لا العكس. ليس هناك قيمةٌ لمطالبة القتلة بالرحمة، لأنهم لا يقتلون بدافع الغضب، بل بدافع المصالح، ومن يظن أن الصمت الدولي تجاه الجرائم هو نوعٌ من العجز، لم يفهم أن الصمت في حد ذاته قرار، قرار بعدم التدخل لأن الأمور تسير وفق المخطط، ولأن الجريمة ليست سوى وسيلة لتحقيق أهدافٍ سياسيةٍ أكبر.

ولسوف يظل هناك دائمًا من يُقتل، وسيظل هناك دائمًا من يقرر من يستحق الحياة ومن يُكتب عليه الموت، وسيبقى العالم كما هو، يُدين المذابح حين تكون خارج حساباته، ويبررها حين تكون في صلبها. أما التاريخ، فسيواصل إعادة التدوير، سيغير الأسماء، وسيروي الحكاية نفسها بأصواتٍ جديدة، لكنه لن يغير شيئًا من قواعد اللعبة، لأن هذه القواعد لم تُكتب لتتغير، بل كُتبت لتبقى.

فما حدث في البوسنة لم يكن مجرد فوضى حرب، ولم يكن نتيجة خلافاتٍ عرقية كما حاول البعض تصويره، بل كان مشهدًا مكتمل الأركان لعملية إبادة، مدعومة بصمت عالمي يرقب دون أن يمد يدًا. آلاف المسلمين البوسنيين أُبيدوا في ساعات، تحت أعين قوات دولية ادّعت أنها جاءت لحمايتهم، لكنها لم تكن أكثر من شاهد زور في مسرحيةٍ مُعدة سلفًا. والدماء التي سالت هناك، لم تكن الأولى في سجل أوروبا الحديث، ولن تكون الأخيرة في قائمة القضايا التي تصنفها القوى العظمى كأزمات "مؤقتة"، لا تستحق التدخل إلا عندما تستدعي مصالحها ذلك.

في فلسطين، يتكرر المشهد، لكن هذه المرة الكاميرات مفتوحة، والصور تُبثّ على مدار الساعة. لا حاجة لإخفاء الجريمة، ولا ضرورة لتبريرها، فالقوة تمنح القتلة حصانة أبدية، والإعلام العالمي يتكفل بصياغة الرواية المناسبة التي تحول الجلاد إلى ضحية، والضحية إلى "مشكلة أمنية" يجب التخلص منها. القصف، والحصار، والتهجير، كلها أدوات استخدمت مرارًا، والموت الذي يسقط في الأزقة وبين البيوت لا يعدو كونه جزءًا من "حق الدفاع" الذي لا يمنح إلا لدولةٍ واحدة، بينما يمنع عن أصحاب الأرض الذين تُسحق أحلامهم تحت الأنقاض. حتى الغضب صار جريمة، والحداد صار تهمة، وأصبح الدفاع عن المظلومين عملاً محفوفًا بالمخاطر، في عالمٍ تديره معايير مختلة، تحدد من يستحق الحياة ومن يُكتب عليه الفناء.

فلم تعد السياسات التي تحكم هذا العصر خافية، فالولايات المتحدة لا تلعب دور الوسيط كما تزعم، بل ترسم حدود اللعبة، تقرر من يربح ومن يخسر، تمنح الصكوك للقتل، وتُصدر الإدانات المعلبة متى ما احتاجت إلى مسرحيةٍ جديدة تخدع بها العالم. دعمت الصرب حتى لم تعد بحاجة إليهم، وتدعَم إسرائيل بيدٍ ممدودةٍ بالسلاح، وأخرى تكتب بياناتٍ جوفاء عن حقوق الإنسان التي لا تتجاوز كونها غلافًا هشاً لشرعية البطش.

وفي القارة السمراء، يتغير أسماء القتلى، لكن النزيف واحد، والصمت أشد وقعًا. إفريقيا تُذبح دون أن يُسمع صراخها، تُباد قبائل بأكملها، تُحرق مدن، وتُغتصب النساء في صمتٍ مدوٍ، لا مؤتمرات صحفية، ولا قرارات طارئة، ولا إعلام عالمي يستعرض صور الضحايا كما يفعل في أماكن أخرى. أهو لون الدم؟ أم هو لون البشرة؟ أم أن موت هؤلاء لا يحمل مكسبًا سياسيًا لمن يقرر مصائر العالم؟ ليس غريبًا أن تكون الجرائم بلا شهود حينما يكون الشهود جزءًا من الجريمة، وحينما تكون الإنسانية في قواميس الأقوياء مرهونةً بجغرافيا النفوذ لا بروح الإنسان.

الحديث عن العدالة في هذا العصر يشبه البحث عن أثرٍ للمطر في صحراء عطشى، فالقانون يُستخدم كأداة انتقائية، يُحاكم فيه الضعفاء فقط، ويظل الأقوياء محصنين، يقفون فوق المشهد، يفرضون العقوبات على غيرهم، ويصيغون القوانين التي لا تنطبق عليهم. المحكمة الجنائية الدولية تتحرك حين تؤمر، وتتجمد حين يمس الأمر أحد حماتها. ومجلس الأمن ليس إلا طاولةً يتقاسم فوقها الكبار الغنائم، يتبادلون الفيتو كما يتبادلون المصالح، يُعطلون قرارات، يوقفون حروبًا حينما لا تخدمهم، ويشعلون أخرى حينما تقتضي مصالحهم ذلك.

في عالمٍ يحكمه الأقوياء، تصبح حقوق الإنسان سلعةً تُباع في الأسواق السياسية، تُستخدم للضغط حينما يلزم، وتُلقى في المزابل حينما تتعارض مع المشاريع الكبرى. ولا قيمة لموتك إن لم يكن سياسيًا، لا يُحتسب دمك إن لم يكن في المكان الصحيح، ولا يُسمع صراخك إن لم يكن في الاتجاه الذي يخدم مصالح من يملكون القرار. هذه ليست نظرية مؤامرة، بل واقعٌ يُكتب بدم الأبرياء كل يوم، ويُترجم إلى أرقامٍ في تقارير المنظمات التي توثق دون أن تفعل، تحصي دون أن تمنع، تُسجل دون أن تتحرك.

فالتاريخ مرآة لا تعكس الماضي على حقيقته، غير أنه آلة تعيد تدوير القتل، تتغير الأسماء، تتبدل الوجوه، لكن الفكرة تظل واحدة: هناك من يمتلك القوة، وهناك من يُسحق تحت وطأتها. هذه ليست مصادفة، ولا هي حتمية قدرية، بل نظام عالمي صيغ بعناية، حيث لا تُوزع الحقوق بالتساوي، ولكنها تُمنح وفق خرائط النفوذ، وحيث يصبح العدل شعارًا لا قاعدة، ويصبح القانون نصًا فضفاضًا لا يُطبّق إلا على الضعفاء. في هذا العالم، لم يكن الموت يومًا مجرد نتيجة حرب أو نزاع وحسب، فقد كان أداةً سياسية تُستخدم لترتيب المصالح، وإعادة تشكيل الجغرافيا وفق مقاسات القوى الكبرى، تلك التي تتحدث عن السلام بينما تشعل الحروب، وتدعو إلى حقوق الإنسان بينما تُحدد من يستحقها ومن يُحرم منها.

منذ بداية الحضارات، لم يكن الصراع مجرد اقتتال بين جيوش، بل كان مشروعًا لضبط إيقاع التاريخ بما يخدم من يملكون السلطة؛ من السيف إلى المدفع، ومن القنبلة إلى الطائرات المسيّرة، كل الأدوات تبدلت، إلا جوهر المسألة: هناك يدٌ تضغط على الزناد، وأخرى تكتب التقارير التي تبرر المجازر. ولم يكن القاتل بحاجة إلى أن يُخفي جرائمه، لأن العالم لا يكترث، أو لأنه ببساطة يمتلك أدوات التبرير. وحين تُباد مدينة، لا يبحثون عن الضحية، بل يسألون: هل تستحق الحياة؟ وحين يُسحق شعب، لا يتحققون من فظاعة المشهد، بل ينظرون إلى من يدعمه ومن يعاديه، فإن صادف أن الضحية خارج حسابات القوى العظمى، يصبح موتها مجرد تفصيل، حدث عابر، يُذكر في نشرات الأخبار، لكنه لا يستدعي التدخل، ولا يفرض تحركًا دوليًا.

في عالم يُدار بهذه القسوة، يصبح مفهوم "الإنسانية" مهزلة، وترفًا يتمتع به الجناة. يمكن أن تكون ضحية، لكن عليك أن تكون في المكان الصحيح، في الدولة الصحيحة، أن يموت مواطنو بلدٍ حليفٍ للقوى الكبرى يعني استنفارًا عالميًا، وتحقيقات، وعقوبات، وطاولات مستديرة تناقش "الكارثة"، بينما موت الآلاف في بقعةٍ لا تهم أصحاب القرار هو مجرد رقم في تقريرٍ أمميٍ بارد، يُدرج في ملفاتٍ لن تُفتح أبدًا. فالإنسانية ليست قيمة مطلقة، بل سوق تخضع فيه للعرض والطلب، لها مواسمها، وأولوياتها، ومنطقها الداخلي الذي لا يخضع لأي مبدأ سوى منطق القوة.

لا أحد يُعاقب على القتل إذا كان المقتول في الهامش، خارج المركز الذي يُملي معاييره على العالم. ترتكب الفظائع كل يوم، وفي كل قارة، لكن بعضها يُعرض كأزمة عالمية، وبعضها الآخر يُعامل وكأنه حدثٌ محلي لا يستحق الانتباه. هناك ضحايا من الدرجة الأولى، وأخرى لا تصنَّف كضحايا، بل مجرد أضرارٍ جانبية، كأن الأرواح ليست متساوية في قيمتها، بل تُحدد وفق معايير لا تعترف بها خطابات السياسة العلنية، لكنها تحكم العالم من وراء الستار.

في هذا المشهد العبثي، لا يُنتظر من الدول أن تتحرك، ولا من المنظمات أن تفرض ميزان العدل، لأن العدالة نفسها لم تكن يومًا في يد من صنعوا الظلم. التاريخ الذي نراه يُكتب ليس إلا انعكاسًا لما يريده المنتصرون أن يُروى، والفجوة بين الحقيقة وما يُقال عنها تتسع يومًا بعد يوم. ولا يُعاد الماضي إلا بمسميات جديدة، ولا يُمنح الحق إلا لمن توافق على إعطائه طاولات النفوذ، وحين نبحث عن القاتل في أي مجزرة، نجد أنه منظومة كاملة، اقتصادٌ وسياسة، تحالفاتٌ وعقود، شركاتٌ تبيع السلاح، وقادةٌ يبررون القتل، وعالمٌ يتظاهر بالدهشة رغم أنه يعلم جيدًا أن ما يحدث ليس طارئًا، بل هو النتيجة الحتمية لنظامٍ صُمم ليكون على هذا النحو.

لا تكمن المأساة الحقيقية في القتل فقط، بل في طريقة التعامل معه، وفي تقسيم العالم إلى دوائر، حيث يمكن لجريمة أن تُشعل الكون غضبًا، وأخرى أن تمر بلا اكتراث. والجاني لا يُحاسب لأنه جزءٌ من هذا النظام، وقد يُكافأ، ويُبرَّأ، ويعاد صوغه كقائدٍ عظيم، لأن المحاكم ليست سوى أدواتٍ انتقائية، تستخدم حين يكون من الضروري الإطاحة بأحد، لكنها تتوقف حين يكون الجاني جزءًا من المنظومة التي تحرك هذه المحاكم نفسها.

إنّ من يعتقد أن هذا العالم يسير وفق قيم العدل لم يستيقظ بعد من وهمه، ولم يفهم أن كل ما يُقال عن الإنسانية مجرد واجهة لمسرحية يكتبها الأقوياء ويؤديها الضعفاء. لا أحد يوقف الموت لأنه خارج الحسابات السياسية، ولا أحد يبكي الضحايا إلا حين يكون بكاؤه جزءًا من لعبةٍ أكبر.

إنّ الفارق الوحيد بين الحروب القديمة والجديدة، أن الأولى كانت تُدار بالسيوف، أما اليوم فتُدار بالمؤتمرات الصحفية والبيانات الرسمية التي تبرر كل شيء، حتى الفناء نفسه.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :