من الواضح أن دعوة الرئيس الأمريكي "ترامب" لم تكن دعوة أخلاقية مجبولة بدوافع إنسانية ، بل من المؤكد أنها دعوة غطرسة استعمارية حافلة بمفردات التحقير والازدراء ، وهي إهانة لكل المنظومة العربية والإسلامية والمجتمع الدولي وهو تحدٍ لقرارات الأمم المتحده واستخفاف بالقانون الدولي ، ولكل القيم التي تنظم العلاقات بين الأمم..
دعوة "ترامب" لترحيل سكان قطاع غزة هي دعوة ضغط ومساومة الهدف من ورائها إفراغ القطاع من اهله وتفكيك المقاومة ، والحال ذاته ينطبق على الضفة وعلى كل الجغرافية الفلسطينية التي يريدها أن تكون خالية من أي مظاهر مقاومة ، ومن ثم البدء في السير على طريق إقامة دولة فلسطينية مجزأة الحدود ومنزوعة السلاح والسيادة..؟!
هذا الطرح هو دعوة مساومة وضغط ، الغاية منه إحداث صدمة في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي ، صدمة تؤدي إلى إعطاء شرعية ومبرراً للضغط على المقاومة الفلسطينية ووضعها أمام خيارات صعبة تبدأ بمرحلة غزة ما بعد الحرب ، لتكون مساحة منزوعة السلاح وخضوعها لإدارة مدنية موالية لإسرائيل ، تتشكل "برعاية أمريكية" ووفق المخطط الترامبي المعد من شأن ذلك اعادة بناء القطاع المدمر على شكل "ريفيرا"، على أن تتحمل الدول العربية تكاليف إعادة إعمار القطاع ، بعد إزالة الركام وتطبيق مخطط يليق بجعل القطاع منطقة سياحية ، على أن تتم إعادة الإعمار أيضا برعاية وإشراف "واشنطن" حصريا وبما يمكن أمريكا من بسط سيادتها على القطاع بطريقة تمكنها من إحكام السيطرة على شواطئ القطاع حيث أكبر مخزون من "الغاز" تحتضنه جغرافية القطاع العربي الفلسطيني من ناحية ومن الناحية الأخرى المضي قدما في إنجاز طريق بديل "لطريق الحرير الصيني" الذي انطلق منذ سنوات في سياق صراع جيوسياسي عالمي.
يمكن القول ان دعوة ترامب إنها دعوة "باطل" يراد بها "باطل" وهي دعوة جاءت بعد تعثر مسارات السلام في المنطقة وفشل تحقيق رؤية أمريكا ، ثم جاءت "طوفان الأقصى" التي بددت أحلام إسرائيل في تعزيز اتفاقية "إبراهام" ، ورغم انقضاء خمسة عشر شهرا من حرب إبادة وتدمير وقتل مروع بحق سكان قطاع غزة الذي لم يبق فيه العدو حجرا ولا شجراً في حرب غير مسبوقة أظهر الكيان وجهه القبيح للعالم، الأمر الذي قلب الوعي الجمعي لشعوب العالم بمن فيها شعوب الدول الحليفة للكيان التي آمنت بحقيقة الكيان الإجرامية وبعدالة القضية الفلسطينية، بعد كل هذه التداعيات التي دفعت المنظمات قاطبة لإدانة الكيان ورعاته وفي المقدمة أمريكا، لتنتهي الحرب دون أن يحقق العدوان أيا من أهدافه ليضطر مجبراً على مفاوضات المقاومة لاسترجاع أسراه .
انه ورغم الخسائر الكبيرة التي رافقت المعركة في غزة ، غير أن تراجيديا المعركة أظهرت الكيان الإسرائيلي بحالة من القبح الذي لم يكن واضحا لشعوب وأنظمة العالم ، ولم يكن أمام أمريكا من طريقة إلا تلك التي عبر عنها "ترامب" الذي جاءت دعوته وبهذا السفور حافلة بالرسائل والرغبات المراد الوصول إليها، منها وضع أنظمة المنطقة أمام مسؤوليتها كما هي محاولة لتلميع وجه الكيان الإسرائيلي وتبييض صفحته دوليا بعد الجرائم التي ارتكبها بالقطاع وبحق سكانه.
من الواضح ايضاً ان دعوة "الترامب" تزامنت مع سلسلة إجراءات اتخذتها إدارته ومنها التغطية على تجاوز الكيان الإسرائيلي في سوريا ولبنان وإطلاق يدها في الضفة الغربية ، وتسويق الأكاذيب عن دول المنطقة، ليذهب ترامب بعيدا في خطاب الغطرسة الذي اتخذ منه وسيلة لترهيب العرب والفلسطينيين ، رابطا كل أحداث العالم بجغرافية غزة وهو يدرك أن كل طروحاته عصية على التحقق ، من خلال دفع العرب والسلطة إلى تحميل المقاومة وزر الأحداث، وتحويل انتصارها إلى هزيمة وجودية ، وترسيخ دعوة المقاومة التخلي عن سلاحها مقابل العيش الرغيد والآمن في كنف رعاية دولية .
والله ولي الصايرين