صدحنا بالحق حين خفتت الأصوات
أ.د سلطان المعاني
19-02-2025 08:43 AM
الأردن، هذا الوطن الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، يقف شامخاً كأنّه شاهدٌ على عصورٍ مضت وأزمانٍ تجلّت فيها أمجاده، فلم يكن يوماً مجرد رقعةٍ جغرافيةٍ أو حدودٍ رسمتها معاهداتٌ واتفاقيات، بل كان على الدوام فكرةً خالدةً في وجدان أمته، ونبضاً حياً في قلب كل من انتمى إليه. هو الحكاية التي تكتبها الأقلام وخطّها الزمن بمداد العراقة والمجد، وحفرها التاريخ في ذاكرة الحضارة بحروفٍ لا تمحى.
منذ فجر التاريخ، كان الأردن أرضاً احتضنت أنبياءً وسارت على أديمها قوافل الحضارات. كانت موطناً لممالكٍ تعاقبت، من المؤابيين إلى الأنباط، ومن روما إلى بيزنطة، ليظلّ حاضناً لإرثٍ إنسانيٍّ يمتد عبر العصور. وقد كان درباً للقوافل وملتقى للحضارات، ومحطةً رئيسةً لصياغة التاريخ، حيث تناثرت فوق جباله ومدنه شواهد المجد، فكل حجرٍ فيه يروي قصة، وكل معلمٍ يشهد على صمود أبنائه.
على أرضه، خاض الأردنيون معارك العزة، وكتبوا بدمائهم سطور النصر، فلم يكن يوماً وطناً مستكيناً أمام العواصف، إنه الوطن الذي كان عصياً على الانكسار، يمضي في وجه المحن كالنسر المحلق في أعالي السماء. ففي ساحات الوغى، كان جنوده أسوداً لا تهاب، وأبناؤه رجالاً لا تلين عزائمهم، سلاحهم إيمانهم بوطنهم، وعقيدتهم أنّ العزة لا تمنح، بل تنتزع بأيدي الأحرار. هم الذين صدحوا بالحق حين خفتت الأصوات، وأوقدوا شعلة الكرامة حين حاول الظلام أن يسود.
ولم يكن الأردن مجرّد ميادين معارك ووقائع بطولية، فقد كان وطن الحلم والطموح، أرضاً نبتت فيها الأجيال على قيم الولاء والانتماء، وترعرع فيها أبناؤه وهم يحملون حبّه في قلوبهم كما تحمل الأرض الطيبة بذور الحياة. لم يكن الوطن يوماً رقعةً يعيش فيها الناس، بل كان كياناً يعيش فيهم، روحاً تضيء دروبهم، وموئلاً يجدون فيه معنى الوجود، وسقفاً يحمي أحلامهم مهما تعاقبت السنون.
وإن كان الأردن أرض الكرامة، فهو أيضاً واحة التآخي، حيث التقت الثقافات وتآلفت الأرواح، فكانت فسيفساءً متقنةً من الأعراق والأديان، جمعتها روح الوحدة، وصاغتها قيم التسامح والمحبة. فلم يكن في يومٍ من الأيام أرض الفرقة، ويشهد التاريخ بأنه كان وطناً ينصهر فيه الجميع في بوتقة العزيمة والتكاتف، فكان شعبه كتلاً متراصةً كالبنيان الذي لا يتداعى، وقفوا معاً في وجه كل التحديات، ونذروا أنفسهم لبناء وطنٍ عصيٍّ على التراجع، ماضٍ نحو المجد بثبات.
لقد أنجب الأردن قادةً ورموزاً للعزة، آباءً لشعبٍ رأوا فيه الأمانة والمسؤولية، وحملوا على عاتقهم صون الأرض والإنسان، وكانت الراية رمزاً للسيادة، وعهداً بين القائد والشعب على أن تبقى مرفوعةً مهما ادلهمّت الأيام. ولم يكن الأردن يوماً إلا صوتاً للحق، وملاذاً لكل ملهوف، يقف بشموخٍ في المواقف التي تحتاج عزيمة الرجال، فلا يميل مع الرياح، ولا ينحني إلا لله.
ورغم الصعاب والمحن التي عصفت به، ظلّ الأردن شجرةً باسقةً تزداد قوةً مع كل ريحٍ تعصف بها، وتغدو جذورها أكثر رسوخاً كلما حاولت العواصف اقتلاعها. لم تكن الأزمات سوى امتحاناتٍ أثبت فيها الأردنيون أنّهم معدنٌ أصيلٌ لا يصدأ، وأنّهم قادرون على تحويل التحديات إلى فرص، والشدائد إلى محطاتٍ للنهوض. بفضل إيمانهم بوطنهم، وتضحياتهم الجليلة، ظلّ الأردن صامداً، يحمل روحه في كفٍّ، وسيفه في الكفّ الأخرى، لا يعرف الوهن، ولا يتراجع أمام الصعاب.
وحين تُذكر مآثره، تُشرق العيون فخراً، وتهتف القلوب بحبه، فهو الوطن الذي لا تغيب عنه شمس الكبرياء، ولا تفقد سماؤه زرقتها مهما ثقلت غيوم التحديات. سيظلّ الأردن، بعزم أبنائه، وبإخلاص شعبه، وبحكمة قيادته، وطناً يُبنى بالحب، ويُحرس بالعهد، ويُصان بالإخلاص، حتى إذا تحدّث التاريخ ذات يوم، شهد أنّه الأرض التي لا تموت، والشعب الذي لا يُقهر، والراية التي لا تُنكّس.
وليس الغِنى في الأرض الممتدة، ولا في الثروات المكدّسة، بل في الكرامة التي لا تُشترى، والعزّة التي لا تُرتهن. والأردن، منذ أن خطّ قدره على صفحات التاريخ، كان وطناً ممتلئاً لا يعرف النقص، ثابتاً لا تهزّه العواصف، معتزاً بذاته وإن جهل العالم قيمته. في سكون جباله تتجلى هيبته، وفي صمت سهوله يكمن مجده، لا يحتاج إلى صخبٍ يُلفت الأنظار، ولا إلى ضجيجٍ يزاحم به الآخرين، فهو يزهو بثرائه الأصيل، ذاك الثراء الذي يُقاس بالعطاء، بالعزّة، بالإرث العريق.
وقد كان الأردن دوماً كبيراً بأبنائه، شامخاً بمبادئه، ثابتاً كأنّه الجبل الأشم. والأردن، الممتلئ بماضيه وحاضره، لم يحتج إلى المبالغة في القول، فحقيقته تنطق عنه، وتاريخه يشهد. هو الوطن الذي لم يخضع لمغريات القوة العمياء، ولم يغترّ بأبّهة زائفة، بل ظلّ موئلاً لمن عرف معنى العزّة الحقيقية، لأولئك الذين لا ينحنون إلا لله، ولا يرون المجد في الطغيان، بل في الوقوف حيث ينبغي أن يقف الرجال. هيبته في كلمة الحق، وحكمته في صمته الذي يُرهب الظلم، ووقاره الذي لا تهزّه العواصف. والأردن، مذ كان، كان وطناً لا تُباع مبادؤه، ولا يُساوم على عزّته، ولا يتخلّى عن شرف مواقفه ولو أظلمت الدنيا من حوله. وحده الممتلئ هو من يستطيع أن يمضي واثقاً بلا تكلف، أن يمنح بلا مِنّة، أن يكون منارةً بلا ادعاء، وهذا هو الأردن، باهظ الكرامة، ثابت المبادئ، غنيّ الأخلاق، ووطنٌ يعرف قدر نفسه، وإن جهل الآخرون عظمته.
أمّا الحُبُّ.. فهو أن يظلّ القلب ممتلئًا بوطنٍ لا تغادره الروح، حتى لو أبعدته الدروب، حتى لو حاولت الأيام أن تخلق بينه وبينك مسافاتٍ من صمتٍ أو غياب. الحنين ليس شوقًا عابرًا يطرق الأبواب ثم يرحل، بل هو ذاك الشعور الجارف الذي يسكب في الروح معنى لا يبدده الزمن، هو ذاك الحبل الخفيّ الذي يربطنا بالأرض الأولى، بالمهد الذي صنع فينا الإباء، وشكّل عزتنا منذ البدء.
وكيف لا يكون الحنين إلى الأردن أعظم، وهو الوطن الذي جاوز حدود الجغرافيا، والارض التي يُذكر اسمها في راسخ الأحاديث، وهو الحقيقة الثابتة في وجدان كل من عرف معناه. هو الكبرياء الذي لا يُشترى، والكرامة التي لا تخبو تحت ثقل الأيام، هو الأرض التي لا تعرف الانكسار، والراية التي لم تهن، ولم تُنكَّس في وجه العواصف.
نكتب كثيرًا، نبعثر الحروف كما لو أننا نريد أن نخاطب العالم، لكن الحقيقة أن كل حرفٍ فينا مسكونٌ به، وكل كلمةٍ هي مرآةٌ له وحده، للوطن الذي لا يقاس بالمقاييس العابرة، ولا يُوزن بموازين المصالح، ولا يُختزل في خريطةٍ يراها الجالسون في أبراجهم الباردة. هو الأردن، حيث الرجولة موقف، والشرف مبدأ، والكرامة قانونٌ لا يُكسر ولا يُباع.
ولم يكن الأردن يومًا ممن يتوسلون المكانة، ولا ممن يُراهنون على الخضوع، ولا ممن يتكئون على إرثٍ دون أن يصنعوا مجدًا يليق به. في كل ذرةٍ من ترابه، حكاية نصرٍ، وفي كل جبلٍ من جباله، صدى فرسانٍ لم يتراجعوا، وفي كل نَفَسٍ من أنفاسه، عبقُ عزّةٍ تليق بمن حفظوه وافتدوه. في وجوه أبنائه شمسٌ لا تغيب، وفي عيونهم شُموخٌ لا يطأطئ رأسه، وفي صدورهم عزمٌ لا ينثني أمام العواصف، وإن هبّت رياح الفتن، وإن ادلهمّت الخطوب.
الأردن وطنٌ إذا ذُكر اسمه أضاءت القلوب، وطنٌ تكتبه الحروف فلا توفيه، ويُسكب في المعاني فلا تحدّه الكلمات. هو الأرض التي تنبت الأحرار، حيث لا يهوى الرجال إلا سماءً تُعانق هامتهم، ولا ترضى النفوس إلا بكرامةٍ تسير بها فوق الأرض مرفوعة الجبين.
قد تبعد الأجساد، قد تأخذنا الحياة إلى حيث لا نختار، لكن بين المسافة والمسافة، بين الخطوة والخطوة، بين اللفظة واللفظة، يبقى الأردن هو العنوان، هو الفكرة التي لا تموت، هو الحقيقة الوحيدة التي لا تتبدل، هو الصوت الذي وإن تهدج في صدورنا من طول الصمت، عاد يومًا ليصدح من جديد.
هذا هو الأردن، وطنٌ لا يعرف الذلّ، لا يخشى التحديات، ولا ينحني إلا لله.