جدلية الحداثة بين تحرر الإنسان وإعادة إنتاج الهيمنة
أ.د سلطان المعاني
20-02-2025 08:56 AM
تنطلق الحداثة من تمجيد الفرد بوصفه كيانًا مستقلًا، قادرًا على تحقيق ذاته بمعزل عن الإكراهات الاجتماعية والتقليدية التي طالما حكمت وجوده. ولذا، فإن الفردانية برزت كقيمة جوهرية في المشروع الحداثي، إذ تمحورت الفلسفات الحديثة حول تمكين الإنسان من اتخاذ قراراته بحرية كاملة بعيدًا عن السلطة الأبوية أو الجماعية التي تقيد خياراته.
وعبر تحولات فكرية متسلسلة، امتدت الفردانية من كونها مفهومًا فلسفيًا إلى نمط حياة يحكم العلاقات الإنسانية، ويعيد تشكيل الروابط الاجتماعية على أسس جديدة، تستند إلى إرادة الفرد وتفضيلاته الذاتية، بدلًا من الأعراف السائدة والتقاليد المتوارثة.
وقد تجلت هذه الفردانية في جميع جوانب الحياة، بدءًا من النظم السياسية والاقتصادية، وصولًا إلى التوجهات الثقافية والفكرية. وأصبحت الديمقراطية، على سبيل المثال، ترجمة سياسية لقيمة الفردانية، حيث باتت حرية الرأي والتعبير والمشاركة في الحكم من الحقوق الأصيلة التي لا يمكن المساس بها. ومن الناحية الاقتصادية، رسّخ النظام الرأسمالي مبدأ الحرية الفردية عبر تمكين الأفراد من امتلاك وسائل الإنتاج، والاستثمار وفق رؤاهم الخاصة دون تدخل سلطوي يحد من طموحاتهم. بل إن هذه الحرية الاقتصادية نفسها أفضت إلى تشكل مجتمعات تقوم على التنافس الفردي، حيث يسعى كل فرد إلى تحقيق أقصى منفعة ممكنة، ما أدى إلى تحولات جذرية في مفهوم العدالة الاجتماعية ودور الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية.
لكن هذه النزعة الفردانية لم تقف عند حدود تمكين الإنسان في مجالات الاختيار الشخصي، بل تجاوزت ذلك إلى أنماط السلطة الحديثة، حيث تحولت السلطة السياسية من مفهومها التقليدي القائم على الحاكم الفرد أو المؤسسة الدينية إلى مفهوم أكثر ارتباطًا بالفرد نفسه. ومع تطور الفكر السياسي الحديث، أصبحت السلطة تُمارَس بوسائل ناعمة تستهدف الفرد لا الجماعة، فتحولت أدوات الضبط الاجتماعي من القوانين الصارمة إلى أنظمة التوجيه الناعم التي تُقنع الأفراد، بدلًا من إجبارهم، على تبني أنماط معينة من التفكير والسلوك. ولم يعد الحكم يتجلى فقط في سلطة الدولة، بل تمدد ليشمل وسائل الإعلام، والمؤسسات الاقتصادية، والمنظومات التعليمية، بحيث أصبحت هذه الجهات تمارس سلطة غير مباشرة، لكنها فعالة، في إعادة تشكيل وعي الأفراد وتوجيههم نحو تصورات محددة تخدم مصالح معينة.
وقد ساهمت هذه التحولات في إنتاج شكل جديد من إنكار الآخر، يتجاوز الأشكال التقليدية التي كانت تعتمد على الإقصاء المادي أو القمع المباشر، ليصبح إنكار الآخر في الزمن الحداثي أكثر تعقيدًا، وأكثر استنادًا إلى الآليات الرمزية والثقافية. ولم يعد الاختلاف يُنظر إليه باعتباره تهديدًا وجوديًا يُقصى بالقوة، بل بات يُعاد تشكيله ليصبح هامشيًا، بحيث يُفرَض على المختلف أن يتكيف مع النموذج السائد أو يندثر. وأصبح الإعلام، بوصفه أحد أهم أدوات السلطة في العصر الحديث، يمارس هذا الإقصاء الناعم عبر إعادة إنتاج صورة الآخر بطريقة تجعله يبدو غير ذي أهمية أو خارجًا عن سياق الحداثة، مما يدفعه إما إلى الانسياق مع التيار السائد أو إلى العزلة والتهميش.
تجلت هذه النزعة الإقصائية في تصورات المجتمعات الحديثة تجاه الهويات الثقافية المختلفة، حيث جرى التعامل مع التنوع الثقافي إما بوصفه تهديدًا للوحدة الوطنية، أو باعتباره مجرد مادة للعرض والاستهلاك دون الاعتراف به ككيان مستقل له قيمته الذاتية. ولم تقتصر هذه الظاهرة على العلاقات بين الدول أو الجماعات العرقية، بل امتدت إلى المجال الفكري والأيديولوجي، حيث أصبحت الحداثة، بوصفها مشروعًا عقلانيًا، تنظر إلى كل ما هو تقليدي أو موروث نظرة دونية، متجاهلة إمكانية التفاعل بين الجديد والقديم في إطار من التكامل بدلًا من الإقصاء.
بذلك، فإن الفردانية، على الرغم من كونها قيمة حداثية محورية، لم تؤدِ فقط إلى تمكين الإنسان، بل أفرزت كذلك أشكالًا جديدة من السلطة التي، وإن بدت أقل قمعًا من النماذج التقليدية، إلا أنها لا تقل تأثيرًا في تشكيل الوعي والسيطرة على المجال العام. وفي الوقت الذي نجحت فيه الحداثة في تحرير الإنسان من كثير من القيود التقليدية، فإنها، مفارقات، أعادت إنتاج أنماط جديدة من الإكراه الاجتماعي، وإن بآليات أكثر خفاءً وأشد تعقيدًا.
وقد انبثقت العقلانية في صلب المشروع الحداثي بوصفها الأداة الرئيسة التي تمكّن الإنسان من فهم العالم وإعادة تشكيله وفق مبادئ المنطق والتجريب والبرهان. وقد تجلّت هذه النزعة العقلانية في مجمل الحقول المعرفية، من الفلسفة إلى العلوم الطبيعية والاجتماعية، حيث أُعلِيَ من شأن التفكير النقدي والمنهجية الصارمة في استنباط الحقائق. وبهذا المعنى، فإن العقلانية الحداثية لم تكن مجرد تطور معرفي، بل مثلت قطيعة مع أنماط التفكير السابقة التي استندت إلى الغيبيات والسلطة الدينية والتقاليد الراسخة.
إلا أن هذه القطيعة لم تكن تامة، بل إنها أعادت إنتاج كثير من الأفكار والمفاهيم التي كانت قائمة قبلها، ولكن بصيغ جديدة تتلاءم مع السياق الحداثي. فقد ورثت الحداثة عن الفكر الفلسفي الإغريقي والمنطق الأرسطي مفهوم السببية، حيث أصبحت كل ظاهرة تُفهم وتُفسَّر وفق قوانين عقلية صارمة، مما أدى إلى ترسيخ الاعتقاد بأن العقل قادر على الوصول إلى الحقيقة المطلقة عبر التحليل الدقيق والتجريب الممنهج. وعلى الرغم من أن هذا التوجه مثّل قفزة في تطور المعرفة البشرية، فإنه حمل نزعة اختزالية أيضاً، إذ افترض أن جميع الظواهر قابلة للتفسير بعقلانية خالصة، متجاهلًا الأبعاد العاطفية والوجدانية التي تميز التجربة الإنسانية.
وقد ساهمت هذه الرؤية في تكريس بعض التصورات القديمة تحت مسمى العقلانية الجديدة، حيث استمر تقسيم العالم إلى ثنائيات صارمة، مثل العقل مقابل العاطفة، والعلم مقابل الإيمان، والموضوعية مقابل الذاتية، مما جعل الحداثة تبدو وكأنها إعادة إنتاج لأنماط التفكير التقليدية لكن بأدوات جديدة. فبدلًا من هيمنة السلطة الدينية التي كانت تفرض تفسيرًا موحدًا للعالم، ظهرت سلطة العلم والعقل بوصفهما المصدرين الوحيدين للمعرفة، وهو ما أفضى إلى نوع من التقديس الجديد، ولكن هذه المرة للمنهج العلمي والتقني بدلًا من النصوص الدينية.
وفي هذا السياق، أصبحت العقلانية أداة لإعادة تشكيل السلطة بطرق مختلفة، إذ انتقل الحكم من استناد السلطة إلى الشرعية الإلهية إلى استنادها إلى العقل والعلم. ومن هنا برزت الدولة الحديثة، التي استمدت شرعيتها من قدرتها على إدارة المجتمع وفق مبادئ التخطيط والعقلنة والتحديث، مما جعل السلطة أكثر رسوخًا وأقل عرضة للتحدي، حيث لم يعد الحكم قائمًا على مجرد القوة، بل على خطاب عقلاني يدّعي الموضوعية المطلقة. وبهذا، فإن العقلانية، رغم كونها أداة للتحرر من السلطات التقليدية، كرست نوعًا جديدًا من السلطة يستند إلى الخبرة والمعرفة التخصصية، مما جعل النخبة العلمية والتقنية تحتل مكانة مشابهة لما كانت عليه النخبة الدينية في العصور السابقة.
لم يقتصر أثر العقلانية على المجال السياسي، بل امتد إلى الاقتصاد والثقافة، حيث أدى انتشار الفكر العقلاني إلى تعزيز الفردانية والتصورات الأداتية للعالم، حيث بات يُنظر إلى الطبيعة والإنسان بوصفهما موضوعات قابلة للتفسير والاستغلال وفق منطق الكفاءة والفعالية. وقد ساهم هذا التصور في بروز الرأسمالية بوصفها النموذج الاقتصادي الأكثر انسجامًا مع الحداثة، حيث تم استبدال القيم الاجتماعية التقليدية بقيم السوق والمردودية والربح، مما جعل العلاقات الإنسانية تُختزل تدريجيًا إلى تبادلات نفعية تحكمها معايير العرض والطلب.
وبهذا المعنى، فإن العقلانية، رغم دورها في تطوير العلوم وتحقيق التقدم التكنولوجي، بوصفها أداة للمعرفة، فقد شكلت منظومة فكرية كرّست كثيرًا من الأفكار القديمة في قوالب جديدة. فقد حافظت، مثلًا، على النزعة المركزية الأوروبية التي تعتبر العقل الغربي النموذج الأرقى في التفكير، مما أدى إلى استبعاد أشكال أخرى من المعرفة، مثل الحكمة التقليدية والفكر الصوفي والرؤى الفلسفية التي لا تستند إلى المنطق الصارم. وبذلك، فإن الحداثة، رغم خطابها التحرري، قد أعادت إنتاج كثير من المقولات الإقصائية التي حكمت الفكر الإنساني في عصور سابقة، ولكن بلبوس أكثر منهجية وصرامة.
إن هذه الجدلية بين التحرر وإعادة الإنتاج تكشف عن الطابع المركّب للحداثة، حيث أدت العقلانية إلى تجاوز الأطر الفكرية القديمة، وعملت، في كثير من الأحيان، على إعادة ترسيخها بطرائق أكثر تعقيدًا. ومع أن العقلانية الحداثية قد حررت الإنسان من سلطة التقليد، فإنها في المقابل فرضت نوعًا جديدًا من الحتميات الفكرية، حيث أصبح العقل معيارًا وحيدًا للحقيقة، مما أدى إلى تهميش أبعاد أخرى من التجربة الإنسانية، مثل الخيال والحدس والتجربة الذاتية. وهذا ما يجعل من العقلانية مشروعًا مفتوحًا على إمكانيات متناقضة، حيث يمكنها أن تكون أداة للتحرر، كما يمكنها أن تتحول إلى أداة جديدة للهيمنة وإعادة إنتاج الأفكار السابقة في قوالب حداثية أكثر تعقيدًا.