facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الألفية الثالثة وانهيار الثوابت


أ.د سلطان المعاني
21-02-2025 11:51 AM

مع دخول البشرية الألفية الثالثة، بدأت تتضح ملامح مزاج جديد يشكّل روح العصر، حيث تتشابك التقنية، والعولمة، والتحولات الاجتماعية في نسيج معقد من التغيرات التي تعيد تعريف الإنسان وعلاقاته مع ذاته والآخرين. يشكل هذا العصر امتداداً زمنياً لما سبقه، ولكنه مبتور عن سياقاته، فهو حقبة مختلفة تمتاز بانهيار الكثير من الثوابت التي شكلت وجدان الإنسانية لقرون. ومع ذلك، يظل السؤال قائماً: هل نحن أمام تقدم فعلي أم مجرد تسارع أعمى نحو المجهول؟.

لقد اعتاد الإنسان عبر التاريخ على مجموعة من الثوابت التي شكلت مرجعيته الوجودية والأخلاقية، ولكن مع دخول الألفية الثالثة، بدأت هذه الثوابت تتآكل واحدة تلو الأخرى، إما بفعل التطور السريع أو تحت ضغط التحولات الاجتماعية والثقافية التي فرضتها العولمة والتكنولوجيا. لم يعد هناك يقين مطلق، بل تحولت الحقائق إلى وجهات نظر، وصار كل شيء قابلًا للتشكيك وإعادة التفسير.

والدين، الذي كان لعصور طويلة مرجعية أخلاقية ومصدرًا للإجابات الكبرى عن معنى الحياة، لم يعد يحتفظ بذات القوة، لا بسبب فقدان الإيمان بحد ذاته، ولكن لأن الإنسان المعاصر بات غارقًا في مشاغل الحياة اليومية التي لا تترك له فرصة للتأمل في الأسئلة الوجودية. لقد أفرز هذا الواقع روحًا جديدة من العدمية، حيث لم يعد الإنسان يبحث عن حقيقة مطلقة، بل اكتفى بالركض خلف الراحة المؤقتة والاستهلاك السريع لكل ما يمكن أن يخفف من وطأة الشعور بالفراغ.

أما المؤسسة العائلية التي شكلت لقرون طويلة الركيزة الأساسية لبناء المجتمعات باتت اليوم في حالة من التحلل التدريجي. فقد أدى التفكك الاجتماعي إلى تصدع الروابط العائلية، ولم تعد العائلة التقليدية النموذج الأوحد للحياة الاجتماعية، بل أصبحت هناك أشكال جديدة من العلاقات لا تقوم بالضرورة على الروابط التقليدية، وإنما على أسس فردانية أكثر هشاشة. في عالم باتت فيه العلاقات تحكمها الحاجة اللحظية أكثر من الالتزام العميق، أصبحت الروابط الإنسانية أقل صلابة، وأكثر عرضة للانهيار عند أول اختبار حقيقي.
ولم تسلم الهوية الثقافية بدورها من هذا الانهيار، إذ فقدت المجتمعات الكثير من خصوصياتها تحت وطأة العولمة التي فرضت نمطًا موحدًا للحياة، تتشابه فيه المدن وتتوحد الأذواق، حتى بات من الصعب تمييز مجتمع عن آخر في ظل انتشار ثقافة الاستهلاك الموحدة التي جعلت الإنسان الحديث كائنًا متجانسًا بلا عمق تاريخي أو ثقافي واضح. لم تعد الثقافة انعكاسًا لتجربة جماعية أصيلة، بل أصبحت سلعة قابلة لإعادة الإنتاج وفق متطلبات السوق العالمية.

حتى مفهوم الحقيقة نفسه لم يعد كما كان. وفي عصر الأخبار المزيفة والمعلومات المتدفقة بلا ضابط، أصبح الوصول إلى المعرفة الحقيقية أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. لم يعد الناس يبحثون عن الحقيقة، بل عن الرواية التي تناسب تصوراتهم المسبقة، فكل فرد اليوم يختار "حقيقته" وفق ما يخدم مصالحه أو يرضي قناعاته الذاتية، مما أدى إلى تفشي حالة من النسبية المطلقة التي جعلت من المستحيل الوصول إلى إجماع حقيقي حول أي قضية كبرى.

في هذا المشهد المضطرب، يبدو أن الإنسان الحديث يقف في منطقة رمادية، لا هو قادر على التمسك بثوابته القديمة، ولا هو قادر على بناء بدائل متماسكة تعوضه عن فقدانها. وبينما يبدو أن العالم يندفع نحو مزيد من التغيير، فإن التساؤل يظل قائمًا: هل هذا التغيير هو انفتاح نحو مستقبل أكثر تحررًا، أم أنه مجرد انزلاق نحو حالة من الفوضى التي ستؤدي في النهاية إلى إعادة تشكيل الإنسان من جديد، ولكن بطريقة لم يكن يتخيلها؟.

يبدو أن هذا العصر يتسم بهيمنة التكنولوجيا التي اخترقت أدق تفاصيل الحياة، حتى بات الإنسان الحديث مقيدًا بآلة ذكية تراقبه، تقوده، وتعيد تشكيل أفكاره بطرق غير مسبوقة. التقنية التي بدأت كأداة لتحرير الإنسان تحولت إلى قيد ناعم يفرض إيقاعه الخاص على الفكر والسلوك. فوسائل التواصل الاجتماعي التي وعدت بتقريب البشر، جعلت منهم كائنات أكثر عزلة، تعيش داخل فقاعات رقمية تنعزل عن الواقع الملموس، وتتغذى على أنماط تفكير مبرمجة مسبقًا. إلى جانب التقنية، هناك ذلك الوهم الكبير الذي يرافق العولمة، حيث قيل إنها ستوحد البشرية في عالم متجانس من الفرص والتفاهم، لكنها بدلاً من ذلك أفرزت فجوات أعمق بين الشمال والجنوب، وبين الأفراد داخل المجتمع الواحد. لقد بات الإنسان الحديث يواجه استلابًا مزدوجًا: استلابًا اقتصاديًا يمحو الهويات المحلية لصالح نموذج استهلاكي عالمي، واستلابًا ثقافيًا حيث يصبح من الصعب التمييز بين ما هو أصيل وما هو مصنوع على مقاس السوق العالمية.

ولم يقتصر الأمر على التكنولوجيا والعولمة، حيث أن الروح الفردانية المتطرفة التي تسود الألفية الثالثة قد زادت من ضيق الأفق الأخلاقي والمعرفي. فبينما كان الإنسان يسعى في الأزمنة السابقة إلى الانتماء لجماعة أو فكرة كبرى، أصبح اليوم منهمكًا في تعزيز ذاته الفردية، حتى لو كان ذلك على حساب التضامن الاجتماعي. ومع أن الفردانية قد تكون منجزًا إيجابيًا في بعض جوانبها، إلا أنها تحولت إلى حالة من النرجسية الجماعية حيث يُقاس كل شيء بمقدار الفائدة الشخصية لا بالقيم المشتركة.

والمفارقة الأشد في هذا السياق أن هذه الألفية التي تتباهى بتقدمها غير المسبوق تعاني من انهيارات وجودية شديدة. ففي مقابل الطفرة العلمية، هناك أزمة بيئية تهدد مستقبل الكوكب، وفي مقابل وفرة المعلومات، هناك ضياع للمعرفة الحقيقية وسط تدفق هائل من البيانات الزائفة. لقد أصبح الإنسان كائنًا رقميًا يعيش في فضاء مشوش حيث يصعب التمييز بين الحقيقة والوهم، وبين ما هو جوهري وما هو هامشي.

وفي ظل هذه التغيرات العاصفة، يظل السؤال الأكثر إلحاحًا هو: هل هذا العصر هو ذروة الحضارة الإنسانية أم بدايتها في التفكك؟ قد تكون الألفية الثالثة أكثر ألفية أنتجت ابتكارات تقنية وثقافية، لكنها أيضًا الألفية التي وضعت الإنسان أمام اختبار صعب: إما أن يعي حدوده ويتحكم في أدواته قبل أن تتحكم به، وإما أن يستسلم لهذا التيار الجارف الذي قد يحمله إلى هاوية لا رجوع منها. وإذا كان التاريخ الإنساني سلسلة من القفزات والتحولات، فإن الألفية الثالثة تمثل نقطة انعطاف غير مسبوقة، حيث باتت الحدود بين التقدم والانهيار أكثر ضبابية من أي وقت مضى. لقد اعتدنا أن نرى الحضارات تتقدم بخطوات ثابتة، لكنها اليوم تسير بخطى متسارعة، لدرجة تجعل من الصعب التنبؤ باتجاهها الحقيقي: هل نحن نتجه نحو عصر ذهبي غير مسبوق أم أننا نندفع بلا وعي نحو حالة من التفكك الحضاري؟.

إن جوهر هذه الإشكالية يكمن في طبيعة التقدم ذاته. فالتكنولوجيا التي يفترض أنها تعزز ذكاء الإنسان وتقوي قدرته على فهم العالم، أصبحت في كثير من الأحيان تعزز سطحيته وتضعف تركيزه. نحن نعيش في زمن تتوفر فيه المعرفة بشكل لم يسبق له مثيل، لكن هذه الوفرة لم تؤدِ إلى حكمة أعمق، ولعل الأمر إلى ضياع في بحر من المعلومات المتناثرة، حيث يتم استهلاك الحقائق بنفس الطريقة التي يتم بها استهلاك الترفيه العابر. وفوق ذلك لم يعد العقل الإنساني يحتفي بالعمق، فهو ينجذب إلى السرعة، إلى كل ما هو موجز، عابر، قابل لإعادة التدوير في تغذية لا نهائية من المحتوى الفارغ.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :