يتجلى بوضوح في المشهد العالمي المتغير أن العلاقات الدولية لم تعد تُحكم بمنطق التفاهمات الدبلوماسية أو المواثيق الدولية، بل أضحت أسيرة لما يمكن تسميته بـ "منطق القوة العارية"، حيث تهيمن سياسات الإكراه والابتزاز والهيمنة على مسارات السياسة العالمية، دون أدنى اعتبار للأخلاق أو القانون. هذا المنطق، الذي يقوم على فرض الإرادة بالقوة الاقتصادية والعسكرية، لا يعترف سوى بلغة الاستحواذ والمصالح، ولا يقيم وزنًا لقيم العدالة أو التعاون الدولي أو حتى لاستقرار النظام العالمي نفسه.
والقوة العارية هي ذلك الوجه الأكثر وحشية للسياسة، حيث تسقط الأقنعة، وتُلغى القوانين، ويُدار العالم كما لو كان غابة، حيث لا صوت يعلو على صوت الهيمنة، ولا بقاء إلا للأقوى، مهما كانت التكاليف والأثمان. هذا المنطق، الذي يُمارس اليوم بطرق مختلفة، لم يعد مقتصرًا على الغزو العسكري التقليدي، فقد تمدد ليشمل أدوات الضغط الاقتصادي، والعقوبات الأحادية، والتلاعب بالمساعدات الدولية، والسيطرة الإعلامية، وحتى التهديد بزعزعة استقرار الدول كوسيلة لإخضاعها لإرادة القوى الكبرى.
إننا نشهد عودةً إلى فلسفة "القوة تصنع الحق"، فلطالما كان التاريخ البشري مسرحًا لصراع القوى، حيث حاولت الإمبراطوريات القديمة فرض رؤيتها للعالم من خلال القوة الغاشمة. إلا أن تطور الفكر السياسي وقيام الدول الحديثة أدى إلى بناء نظام عالمي يستند إلى القوانين والشرعية الدولية لضبط تفاعلات الدول ومنع التوسع الفوضوي للقوى الكبرى على حساب الدول الضعيفة. غير أن ما نشهده اليوم، خاصة مع صعود القوى العظمى التي لا تؤمن إلا بمصالحها، هو نكوص خطير نحو مرحلة ما قبل القانون الدولي، حيث تعود الفكرة البدائية التي تختزل الحق في القوة فقط، وليس في الشرعية أو العدالة.
إن الممارسات القائمة اليوم، من الحروب الاقتصادية، والتدخلات السياسية، وإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وفرض العقوبات لإخضاع الأنظمة السياسية، واللعب بورقة الانقلابات والانقسامات الداخلية، والتلاعب بمنظمات حقوق الإنسان لتبرير التدخلات الخارجية، كلها تمثل تجليات صارخة لمنطق القوة العارية، حيث تحل الهيمنة محل الشراكة، والابتزاز محل الحوار، والاحتكار محل العدل. وتأتي الهيمنة الاقتصادية كأداة للقوة العارية، ففي الماضي، كانت القوة العارية تتجلى في الغزو العسكري والاستعمار المباشر، حيث كانت الدول تُحتل بالقوة المسلحة. أما اليوم، فقد تطور هذا النموذج ليأخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا، مثل التحكم في مصادر الطاقة، واحتكار التكنولوجيا، وإغراق الدول في الديون لإخضاعها سياسيًا، والضغط الاقتصادي لإجبارها على التخلي عن سيادتها لصالح مشاريع القوى الكبرى. فبدلًا من إرسال الجيوش، يتم استخدام العقوبات الاقتصادية، وقطع المعونات، وفرض الحصار المالي، والتلاعب بأسواق العملات، لإرغام الدول على الخضوع دون إطلاق رصاصة واحدة. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، تستخدم الدولار كأداة هيمنة، حيث تستطيع عزل أي دولة عن النظام المالي العالمي بمجرد فرض عقوبات على مصارفها، كما فعلت مع إيران وكوبا وروسيا وفنزويلا. أما الصين، فقد وسّعت نفوذها من خلال إغراق الدول النامية في ديون هائلة عبر مشاريع "الحزام والطريق"، مما يمنحها نفوذًا اقتصاديًا يمكّنها من فرض إرادتها السياسية. والاتحاد الأوروبي لا يتردد في استخدام الضغط السياسي والاقتصادي لإملاء قراراته على الدول الأصغر داخل منطقته، مستخدمًا سياسات الدعم المالي المشروط.
أما القوة العارية في عصر المعلومات، فقد أصبحت الحروب تُخاض بالأسلحة، وعبر البيانات والمعلومات. فالقوى الكبرى تمتلك الأدوات التي تمكنها من التحكم في تدفق المعلومات، والتأثير على الرأي العام العالمي، وتوجيه الأحداث لصالح أجنداتها. وقد أصبحت شركات التكنولوجيا العملاقة مثل جوجل وفيسبوك وتويتر أدوات تستخدمها بعض الحكومات للتأثير في الانتخابات، والتحكم في الخطاب العام، والتلاعب بالحقائق، مما يجعل الدول الأكثر تحكمًا في تدفق المعلومات قادرة على صياغة الواقع كما تشاء.
هذا الجانب من القوة العارية يجعل الحروب المعلوماتية أكثر خطورة من الحروب التقليدية، لأنها تمحو الفوارق بين الحقيقة والوهم، وتتيح التلاعب بالمجتمعات دون الحاجة إلى أي احتلال مباشر. فبمجرد التلاعب بالرأي العام، يمكن إسقاط حكومات، وإشعال الثورات، وزعزعة استقرار دول بأكملها، كما رأينا في العديد من الدول العربية أثناء ما سُمّي بـ "الربيع العربي"، حيث تم توظيف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي كأدوات لتأجيج الأوضاع، وتحريك الجماهير، وإعادة تشكيل المشهد السياسي وفقًا لرغبات قوى معينة.
إن منطق القوة العارية هو المسار الذي اتبعته العديد من القوى عبر التاريخ عندما اختارت فرض إرادتها بالقوة، متجاوزة بذلك أي التزامات أخلاقية أو قانونية، ومستبدلة قواعد القانون الدولي بمبدأ "البقاء للأقوى". لكنه، رغم نجاحه المؤقت في تحقيق مصالح القوى العظمى، يحمل في جوهره بذور التدمير الذاتي، حيث يؤدي إلى حركات صراعية يصعب ضبطها، ويقوض أسس النظام الدولي، مما ينذر بمستقبل مليء بالاضطرابات.
عندما يتم التخلّي عن القانون الدولي باعتباره المرجعية الأساسية لتنظيم العلاقات بين الدول، يصبح العالم ساحة مفتوحة للصراعات التي لا تخضع إلا لمنطق المصالح الآنية. وحينما تُستخدم الدبلوماسية كأداة للإكراه والابتزاز، تفقد الدول الصغيرة والمتوسطة أي هامش للمناورة، وتتحول إلى ساحات نفوذ تُتنازع عليها القوى الكبرى. هذا الوضع يولد حالة من عدم الاستقرار الدائم، إذ لا يمكن لأي قوة، مهما بلغت من السطوة، أن تضمن بقاء تفوقها إلى الأبد، لأن موازين القوى تتغير مع الزمن، وأي قوة تعتمد فقط على فرض الهيمنة ستجد نفسها عاجلًا أم آجلًا في مواجهة تحديات غير متوقعة.
إن هذا المنطق ينعكس أيضًا على المجتمعات من خلال تعميق التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية. فعندما تُدار العلاقات الدولية وفقًا لقواعد الهيمنة، فإن الدول الأضعف تفقد حقها في التنمية المستقلة، وتصبح اقتصاداتها رهينة لإملاءات القوى الكبرى، مما يؤدي إلى مزيد من الفقر والتهميش. ويتعزز هذا التفاوت في ظل نظام عالمي قائم على الاستغلال، حيث تتحكم القوى المهيمنة في الموارد، وتفرض شروطها على الدول النامية، مما يؤدي إلى تكريس الفجوة بين الأغنياء والفقراء على المستويين المحلي والعالمي.
إن هذا التوجه خيار سياسي تتبناه بعض القوى الكبرى، وهو تعبير عن فلسفة تسعى إلى إعادة إنتاج الاستعمار بصيغة جديدة، حيث لم يعد الاستعمار التقليدي القائم على الاحتلال العسكري هو الأداة الوحيدة للسيطرة، بل حلت محله أدوات اقتصادية وسياسية أكثر تعقيدًا، لكنها تؤدي في النهاية إلى نفس النتيجة: إخضاع الدول وإرغامها على الامتثال لإرادة القوى العظمى. وهذه الديناميكية تفتح الباب أمام أشكال جديدة من الصراعات، حيث تدرك الدول المتضررة عاجلًا أم آجلًا أنها لا تستطيع تحقيق استقلالها الفعلي إلا بمواجهة هذا النظام غير العادل، مما يؤدي إلى ظهور حركات مقاومة بأشكال مختلفة، سواء كانت سياسية أو عسكرية أو اقتصادية.
إنّ الحل الوحيد لتجنب هذا المسار الكارثي يكمن في إعادة الاعتبار لمبادئ القانون الدولي، وإعادة بناء نظام عالمي أكثر عدلًا وتوازنًا، حيث يتم إرساء علاقات دولية تقوم على التعاون بدلًا من الصراع، وعلى الاحترام المتبادل بدلًا من الإكراه. ولكن هذا المسار ليس سهلًا، لأنه يتطلب إرادة سياسية جماعية، وتجاوز المصالح الضيقة لصالح رؤية بعيدة المدى تهدف إلى تحقيق الاستقرار العالمي على أسس عادلة. فبدون هذه الخطوات، سيبقى العالم محكومًا بدورات متكررة من الفوضى والصراعات، حيث تفرض القوة منطقها إلى أن تصل إلى نقطة الانفجار التي لا يمكن التنبؤ بعواقبها.
إن القوى الكبرى تراهن على ضعف المجتمعات وانشغالها بأزماتها الداخلية، حيث يتم استنزاف الدول في صراعات داخلية مفتعلة تجعلها عاجزة عن مواجهة التحديات الخارجية الكبرى. غير أن التاريخ علّمنا أن أي نظام قائم على الإكراه والقوة لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، فالإمبراطوريات الكبرى التي سادت في مراحل مختلفة من التاريخ انهارت عندما وصلت إلى درجة من التوسع جعلت إدارتها غير ممكنة، وعندما وجدت نفسها في مواجهة مقاومة عنيدة من الشعوب التي رفضت الخضوع والاستسلام. إن السؤال الذي يواجه العالم اليوم ليس ما إذا كان نظام الهيمنة سينهار أم لا، بل متى سيحدث ذلك، وإلى أي مدى ستدفع البشرية ثمن استمرار هذا النهج قبل أن تنجح في تجاوزه. إما أن تنتفض الشعوب والدول لاستعادة مكانتها في النظام العالمي، وإما أن تستسلم لمنطق القوة العارية، فتجد نفسها رهينة نظام لا يعترف بالحقوق، ولا يحترم الشرعية، ولا يمنح السيادة إلا لمن يمتلك القدرة على فرضها. والفرق بين الخيارين لا يكمن فقط في الإرادة السياسية، بل في الوعي بأن التغيير ليس مستحيلًا، وأن مقاومة الظلم، مهما كانت كلفتها، هي الطريق الوحيد للحفاظ على الكرامة الإنسانية، وتجنب السقوط في دوامة الفوضى التي تنتظر العالم إذا استمر على هذا المسار.