facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




السلام القسري وأزمة الحوار الحضاري


25-02-2025 11:08 AM

لم يكن السلام يومًا مفهومًا واحدًا ثابتًا، بل كان على الدوام مفهومًا خاضعًا للتأويل تبعًا للسياقات السياسية والاقتصادية التي تتحكم فيه. وفي ظل التوازنات العالمية الحالية، أصبح ما يُعرف بـ"السلام القسري" نموذجًا متكررًا في العلاقات الدولية، حيث يتم فرض السلم كأداة لتكريس واقع معين يخدم مصالح قوى بعينها؛ فالقوة العسكرية والسياسية تؤدي دورًا حاسمًا في تشكيل طبيعة الحوار الحضاري، حيث تُفرض معادلات التفاهم والتفاعل بين الشعوب وفقًا لما تمليه موازين القوى، لا وفقًا لروح الانفتاح الحقيقي؛ إذ كيف يمكن لدول لا تمتلك قوة عسكرية مماثلة أن تكون طرفًا فاعلًا في الحوار، في حين أن الدول الكبرى تضع القواعد وتتحكم في المؤسسات الأممية التي يُفترض أن تكون منصات لحوار عادل؟ إن فرض شروط مسبقة على الأطراف الأضعف، وتحديد سقف المسموح والممنوع في النقاشات الدولية، يحوّل الحوار إلى أداة بيد القوى المسيطرة، بحيث يصبح أكثر انحيازًا للمصالح منه إلى المبادئ. وفي هذا السياق، تتعمق الأزمة مع التراجع المستمر للمرجعيات الروحية والفكرية، التي كانت فيما مضى تضطلع بدور أساسي في ضبط مسارات الحوار الحضاري.

لقد كان للفلاسفة والمصلحين والمفكرين دور جوهري في إعادة تعريف العلاقات بين الحضارات، فكان غاندي، ومالك بن نبي، وروجيه غارودي، وتولستوي وغيرهم رموزًا عالمية للحوار والتفاهم. هؤلاء لم يكونوا مجرد شخصيات فكرية، بل كانوا روادًا في تحويل الحوار إلى ممارسة إنسانية قائمة على العدل والتسامح والتكامل. أما اليوم، فقد تراجع هذا الدور لصالح قوى السياسة والاقتصاد، مما أدى إلى تقزيم الحوار الحضاري وتحويله إلى مسألة دبلوماسية محضة، تُستخدم لخدمة برامج بعينها، بدلًا من أن تكون وسيلة لإثراء التواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة.

لكن رغم هذه العوائق، فإن استعادة روح الحوار الحضاري ليست مستحيلة، بل تتطلب تبني استراتيجيات جديدة لا تخضع للهيمنة التقليدية المفروضة من القوى الكبرى. ومن بين هذه الاستراتيجيات، يمكن العمل على بناء تحالفات ثقافية مستقلة عن الهياكل السياسية الرسمية، حيث يكون للمثقفين والفنانين والمفكرين الدور المركزي في إعادة تشكيل فضاءات الحوار بعيدًا عن التجاذبات المصلحية. إن العودة إلى الفلسفات الإنسانية الكبرى، مثل الفكر الإسلامي الأصيل، والفلسفة الكونفوشيوسية، والقيم الإنسانية المشتركة، يمكن أن تؤسس لحوار أكثر توازنًا، يبتعد عن الإملاءات الأحادية التي تُفرض باسم العولمة أو الحداثة، بينما هي في جوهرها شكلٌ جديد من أشكال السيطرة الفكرية والسياسية.

وفي سياق متصل، فإن التقدم التكنولوجي يتيح اليوم فرصًا جديدة لكسر احتكار القوى الكبرى لمفاصل الإعلام والمعلومات. فقد أصبح بالإمكان إنشاء منصات حوار رقمية عالمية، تُمكّن الشعوب من إعادة تقديم رؤاها بطرق أكثر استقلالية، بعيدًا عن الهيمنة التقليدية على السرديات الكبرى. فالإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمبادرات الثقافية الإلكترونية، كلها أدوات يمكن استغلالها لإيجاد مساحات أكثر حرية للنقاش الحضاري المفتوح، حيث لا يكون صوت القوي هو الصوت الوحيد المسموع، بل يكون لكل حضارة وشعب ومجتمع القدرة على التعبير عن نفسه وفقًا لمرجعيته الخاصة.

أما على المستوى السياسي، فإن تجاوز الهيمنة التقليدية للقوى الكبرى لا يتحقق عبر المواجهة المباشرة، فقد يكون من خلال بناء تكتلات ثقافية واقتصادية مستقلة، تتيح للدول الناشئة أن تصوغ خطابها الخاص خارج الأطر المفروضة عليها. بدلاً من أن تظل هذه المجتمعات في موقع المتلقي الذي ينتظر أن تُمنح له فرصة الحوار، يمكنها أن تبادر إلى بناء منصاتها الخاصة، وتكوين شراكات ثقافية واقتصادية تعزز من استقلاليتها وقدرتها على التأثير في المشهد العالمي.

إن استعادة روح الحوار الحضاري ضرورة لضمان مستقبل أكثر عدالة وتوازنًا بين الأمم. فبينما تفرض الدول الكبرى "سلامًا قسريًا" عبر أدوات الضغط المختلفة، يجب على الشعوب أن تسعى إلى بناء مساحات حوار أكثر إنصافًا، حيث يكون التكامل هو الهدف وليس الاستتباع. رغم التحديات الكبيرة التي تواجه هذا المسعى، فإن التجربة الإنسانية أثبتت أن الحضارات، رغم كل الصراعات، لم تتوقف يومًا عن التواصل والتفاعل. واليوم، ربما تكون هناك فرصة جديدة لإعادة تعريف مفهوم الحوار، بحيث لا يكون مجرد غطاء لصراع النفوذ، بل أداة حقيقية لتحقيق الفهم المتبادل، دون هيمنة أو استعلاء.

إن التجاذب بين الإرادة الحرة والمصالح المهيمنة هو جزء من المسار البشري الذي لا فكاك منه، وهو ما يجعل الحوار الحضاري خاضعًا دائمًا لهذا التوتر بين القوى المختلفة، فلم يكن التاريخ يومًا مسارًا مستقيمًا من التفاهم والسلام، فكان مزيجًا من التعاون والتنافس، والحوار والتصادم، والتفاهم والهيمنة؛ فمنذ هابيل وقابيل، تجلّى هذا الصراع بين منطق السلام ومنطق القوة، وبين من يرى في الحوار وسيلة للتعايش، ومن يستخدمه كأداة لتبرير التوسع والسيطرة. وعلى الرغم من أن النزاعات والصراعات قد شكّلت جزءًا من تاريخ البشرية، إلا أن ذلك لم يمنع محاولات بناء جسور التفاهم والتعاون، ما يدل على أن هذا التجاذب لم يكن حتميًا بالمطلق، إذ كان ولا يزال جزءًا من معادلة قابلة لإعادة التشكيل وفقًا للوعي الجماعي للشعوب.

إن إحدى الإشكاليات الأساسية التي تواجه الحوار الحضاري اليوم هي استحالة فصله عن المصالح السياسية والاقتصادية، حيث إن كل خطاب دولي يحمل خلفه توازنات قوى تُحدد ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله. فحتى أكثر الحوارات التي تبدو قائمة على القيم المثالية، غالبًا ما تكون محكومة بمنطق المصالح والاستراتيجيات التي تتحكم في مساراتها. فهل ثمة إمكانية لفصل الحوار عن المصالح؟ وكيف يمكن تحقيق التوازن بين المصالح والقيم، بحيث لا يتحول الحوار إلى مجرد وسيلة لإعادة إنتاج هيمنة القوى الكبرى؟ وكيف يمكن أن يكون أداة لتحقيق العدالة بين الشعوب والحضارات المختلفة؟ أسئلة برسم الإحقاق لا التكهن، فهنا يأتي دور الشعوب والمجتمعات في إعادة تشكيل هذا المشهد، من خلال تجاوز الدور السلبي الذي يجعلها في موقع المتلقي، إلى دور الفاعل الذي يحدد مسارات الحوار وفقًا لمرجعيته الخاصة. فكما أن القوى الكبرى تمتلك الأدوات التي تمكنها من توجيه الحوار لصالحها، فإن المجتمعات التي تدرك أهمية الاستقلال الثقافي والإعلامي والفكري يمكنها أن تصنع بدائل تعزز من حضورها في المشهد العالمي، دون أن تكون تابعةً لما تفرضه القوى المسيطرة.

إن إدراك هذه الميكانزميات وتفكيكها يمكن أن يساعد في تطوير استراتيجيات تجعل الحوار الحضاري أكثر توازنًا وإنصافًا. فالحوار أداة حتمية لضمان مستقبل عالمي أكثر استقرارًا وعدلًا. وما لم يتم إيجاد بدائل حقيقية تضمن استقلالية الشعوب، فإن الحوار سيظل مجرد إعادة إنتاج لنفس التوازنات المختلة التي تحكم العالم اليوم. وهنا يكمن التحدي الحقيقي، في امتلاك القدرة على تحويل هذا التجاذب إلى فرصة لإعادة بناء الحوار الحضاري على أسس أكثر إنسانية وتكافؤًا.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :