توازن السياسات بين الثقة والمناورة
أ.د سلطان المعاني
26-02-2025 10:05 AM
تشهد السياسة الدولية تحولات متسارعة تفرض على الدول إعادة النظر في استراتيجياتها، حيث لم يعد الانكفاء نهجًا مقبولًا، ولم تعد المغامرة العشوائية خيارًا حكيمًا. بين هذين النقيضين، تقف الدول أمام اختبار دقيق لموازنة سياساتها الخارجية والداخلية، وفق رؤية تتيح لها تحقيق الاستقرار دون أن تفقد قدرتها على التأثير في محيطها. فمنذ تشكّل النظام الدولي الحديث، كان الحذر سمة ملازمة للسياسات، لكن التجارب التاريخية أظهرت أن الإفراط فيه قد يحوّل الدولة إلى كيان متلقٍّ للأحداث بدلًا من أن يكون صانعًا لها. فالاستقرار السياسي هو نتاج لقدرة الدولة على التكيّف مع التحولات، مع احتفاظها بهامش من المبادرة يتيح لها التحرك وفق ما تقتضيه مصلحتها الوطنية.
ولم يكن الرهان على الحذر وحده يومًا كافيًا لحماية الدول من التحديات، فقد يتحوّل إلى عائق أمام التفاعل الناجع مع النظام العالمي. فالدول التي تكتفي بتفادي المخاطر دون أن تخطو نحو التأثير، تجد نفسها في حالة من الجمود الذي يضعف مكانتها، ويجعلها عرضة للضغوط الخارجية. غير أن التجارب أثبتت أيضًا أن الاندفاع غير المدروس، والرغبة في فرض النفوذ دون مقومات كافية، يقودان إلى نتائج عكسية، حيث تتحول المبادرة إلى مغامرة غير محسوبة العواقب. بذلك، تغدو السياسة فن تحقيق التوازن بين الحذر والمبادرة، بما يتيح للدولة إدارة علاقاتها وفق رؤية استراتيجية تحافظ على استقرارها، وتضمن حضورها الفاعل في القضايا الدولية والإقليمية.
ويقدّم الأردن نموذجًا يمكن الاستفادة منه في قراءة معادلة الحذر والمبادرة، فهو دولة تتوسط منطقة مشتعلة بالصراعات، ومع ذلك، تمكّن من تجنّب الانجرار إلى المواجهات المباشرة، وحرص على الاستقرار الداخلي، في وقت عانت فيه دول أخرى من اضطرابات متزايدة. ولم يكن هذا الاستقرار نتاج الحذر وحده، بل نتيجة قدرة الأردن على صياغة سياسة خارجية تراعي المتغيرات دون أن تسقط في الجمود. إنّ التوازن في العلاقات الإقليمية، وتوظيف الدبلوماسية كأداة رئيسة في التعامل مع الأزمات، جعلا منه طرفًا قادرًا على التفاعل مع التحولات دون أن يفقد خصوصيته أو يخضع لضغوط تُفقده قراره المستقل، وتشهد الوقائع الدولية الحديثة وفي عالمنا العربي على ذلك.
وفي ظل إعادة تشكّل التحالفات الدولية، وجنوح النظام العالمي نحو حالة من الاستقطاب الجديد، تجد الدول نفسها أمام معضلة تتعلق بإعادة تعريف مواقفها، بحيث لا تصبح رهينة لمعادلات قوى لا تخدم مصالحها، ولا تفقد في الوقت ذاته فرص التأثير من خلال تحالفات تكتيكية تضمن لها موقعًا متقدمًا في الساحة الدولية. هذه المعضلة تتطلب نهجًا سياسيًا مرنًا، قادرًا على استيعاب المتغيرات، وتوظيفها في خدمة المصلحة الوطنية، بدلًا من التمسك بأنماط تقليدية لم تعد صالحة لعالم يعاد تشكيله وفق قواعد جديدة.
إنّ التفاعل مع النظام الدولي لا يعني الخضوع له، كما أن الحذر من تقلباته لا يبرر العزوف عن الفعل السياسي، فالدول التي تستكين إلى موقع المراقب تجد نفسها في النهاية خاضعة لقرارات غيرها. وتقاس الفاعلية السياسية بالقدرة على توجيه الأحداث، والتأثير في مجريات السياسة وفق رؤية تضمن للدولة مصالحها دون أن تعرضها لمخاطر تفوق إمكانياتها. من هنا، يصبح الحذر مطلوبًا بقدر ما يكون القدرة على اتخاذ القرار ضرورية، إذ لا يمكن لدولة أن تحمي سيادتها واستقرارها دون أن تمتلك الجرأة اللازمة للتحرك في اللحظة المناسبة، وقد نجح الأردن في إدارة دفة المتغيرات بما يحفظ التوازن المطلوب في ظل غطرسة مكشوفة تعمل على تسليع الأوطان، وجعلها قابلة للبيع أو التوسع أو التقليص على حساب حدود الكيانات المعترف بها دولياً.
لم يعد الحذر كافيًا لضمان الاستقرار في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، كما أن التسرع في اتخاذ المواقف قد يكلّف الدول أكثر مما تحتمل. في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى نهج أكثر مرونة، قادر على تحقيق التوازن بين التحفظ والمبادرة، بما يتيح للدولة الحفاظ على استقلال قرارها، وفي الوقت ذاته، امتلاك الأدوات الكفيلة بالتفاعل مع المتغيرات دون أن تكون عرضة لاضطرابات غير محسوبة. إنه امتحان دقيق تواجهه الدول في كل مرحلة من مراحل تحول النظام الدولي، ولا ينجح فيه إلا من يمتلك القدرة على قراءة الواقع كما هو، ولكن أيضا كما يود أن يكون.
أما في ساحة السياسة الدولية، فقد أصبح التفاعل بين الدول معقدًا بسبب تباين المصالح والاستراتيجيات، مما يجعل الوضوح والغموض أداتين متكاملتين في رسم ملامح الدبلوماسية. فبينما يُعزز الوضوح ثقة الدول ببعضها ويخلق بيئة تفاوضية تقوم على أسس واضحة، فإن الغموض يمنح الفاعلين الدوليين هامشًا أوسع للمناورة، ويجنبهم الالتزامات المبكرة التي قد تقيد حركتهم في المستقبل. في ظل العلاقات الدولية المتغيرة، يصبح هذا التوازن ضرورة استراتيجية، حيث لا يمكن لأي دولة أن تنتهج سياسة تقوم على الإفصاح الكامل دون أن تخاطر بكشف كل أوراقها، كما أن المبالغة في الغموض قد تجعلها تبدو مترددة أو غير موثوقة في نظر شركائها.
يحقق الوضوح في الخطاب الدبلوماسي عدة غايات، أبرزها تعزيز الثقة بين الدول، وإعطاء رسائل سياسية واضحة لحلفاء أو خصوم محتملين، وتحديد المواقف بشكل لا يسمح بالتأويل الذي قد يُساء فهمه أو يُستغل من قبل أطراف أخرى. في المقابل، فإن الغموض الدبلوماسي يمنح الدول القدرة على إعادة التموضع، وتغيير استراتيجياتها وفق تطورات المشهد الدولي دون أن تكون مقيّدة بتصريحات سابقة قد تصبح عبئًا سياسيًا في ظروف معينة. ولهذا، تلجأ القوى الكبرى، وحتى الدول الإقليمية الطموحة، إلى المزج بين الاستراتيجيتين، بحيث تستخدم الوضوح عند الحاجة إلى رسم خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، وتوظف الغموض حين يكون الهدف هو إبقاء الخصوم في حالة من عدم اليقين حول نواياها وخياراتها المستقبلية.
ويظهر أحد أبرز الأمثلة على هذا التوازن في السياسات المتبعة خلال الأزمات الدولية، حيث تلجأ بعض الدول إلى توجيه رسائل حادة وواضحة حول موقفها من قضية معينة، بينما تترك هامشًا من الغموض بشأن طبيعة ردود أفعالها المحتملة، مما يتيح لها القدرة على التصعيد أو التهدئة حسب مقتضيات الوضع. كما أن الغموض قد يكون أداة فعالة في مفاوضات حساسة، حيث تتجنب الدول الكشف عن خطوطها التفاوضية منذ البداية، ما يمنحها مرونة أكبر في تحقيق مكاسب غير متوقعة.
إن نجاح الدول في إدارة علاقاتها الدولية يعتمد على مدى قدرتها على توظيف الوضوح حين يكون ضروريًا، واستخدام الغموض كأداة استراتيجية عندما تقتضي الحاجة. فالدبلوماسية فن إدارة التوقعات، والسيطرة على مساحات التأويل، والتحكم في مسار التفاعلات الدولية دون أن تكون مقيدة بمواقف جامدة. في عالم تحكمه التحولات السريعة، يصبح هذا النهج ضروريًا للحفاظ على المكانة السياسية، وتعزيز النفوذ، وضمان القدرة على التكيف مع المتغيرات دون خسائر استراتيجية غير محسوبة، وقد انتهج الأردن بقيادته الهاشمية هذا النهج الحكيم، مما فوت الفرصة على لحظة اقتناص التزام أراده الطرف الآخر لصالحه.