رحلة الإنسان في مجاهدة ذاته
أ.د سلطان المعاني
27-02-2025 10:49 PM
ها نحن نمضي في دروب الحياة، متأرجحين بين السقوط والنهوض، بين لحظات النقاء ونزوات الضعف. قد يبدو المرء في ظاهره ثابتاً على درب الفضيلة، متماسكاً أمام العيون التي ترقب خطواته، لكنه في حقيقته ليس إلا إنساناً يحمل بين جنبيه قلباً يهفو إلى التجربة، وروحاً تتأرجح بين الخطأ والصواب. فلا الملائكة تسير بين البشر، ولا العصمة تحيطهم بسياج منيع، إنما هي نفوس تتعثر، ثم تقوم، تخطئ ثم تتوب، تَضِّلُ ثم تهتدي.
المجتمعُ مُكَوِّنٌ بشري، تتخلله لحظات من السمو وأخرى من السقوط، ولا يُقاس صدق الالتزام فيه بانعدام الزلل، وإنما بقدرته على مراجعة ذاته والعودة إلى جادة الصواب كلما جرفته أمواج الضعف، فليس كل زلة نفاقاً، ولا كل هفوة انحلالاً، فالبشرية منذ خُلقت تسير في هذا المدار الأبدي من الخطأ والاستغفار، من الذنب والتطهّر، من الشهوات التي تستثيرها الأرض، والآمال التي تشدها إلى السماء.
لم يكن الصالحون يوماً بلا ذنوب، لكنهم امتازوا بمعرفة الطريق بعد الضياع، بالكتمان حين زلت أقدامهم، وبالاعتراف دون مكابرة حين استيقظت ضمائرهم، لم يتخذوا من أخطائهم راية يرفعونها، ولم يبحثوا عن مبررات تغلف زلاتهم بثوب الطهر الكاذب، فلاذوا بالصمت حيث يجب، ولجأوا إلى الاستغفار حين أدركوا ثقل ما اقترفوه، وأتبعوا السيئة بالحسنة حتى طغى النور على العتمة.
هكذا تمضي الحياة، لا ثبات مطلق، ولا سقوط نهائي، فهي رحلة تتخللها عثرات، يقابلها صدق التوبة، ونبل المحاولة، ومجاهدة النفس في سرها قبل جهرها.
وما الحياة إلا نهر يمضي، يجرف معه ضعف الإنسان كما يحمل قوته، يفيض أحيانًا فيغرقنا في لجج الزلل، وينحسر أحيانًا ليكشف لنا صلابة الأرض التي نقف عليها. لا أحد معصوم من العثرة، ولا أحد فوق حاجته إلى التوبة، فالقلوب وإن سمت تظل تتنازعها الأهواء، والنفوس وإن تزكّت تبقى في صراع دائم بين النور والظلمة. وليست الفضيلة في أن يكون المرء بلا خطيئة، فالفضيلة في ألا يستسلم لها حين تسقطه، ألا يبررها حين تفضحه، وألا يتخذها رفيقًا حين تدعوه.
كم من عينٍ تنظر فلا ترى إلا السطح، تحكم بالمظاهر وتجهل الأعماق، تزن البشر بميزان ثابت لا يدرك أن الاستقامة طريق لا محطة، وأن السائرين إليه يتعثرون، يتألمون، لكنهم لا ينحرفون عنه عمدًا، ولا يغترون بسقوطهم حتى يستمروا فيه. هناك من يخطئ فيعلن خطأه، كأنه يريد من العالم أن يشاركه وزره أو أن يخفف عنه وطأته بالتصفيق، وهناك من يخطئ فيداري زلته بوجل، ليس خوفًا من الناس، بل احترامًا لقدسية الصراع الذي يخوضه بين ضعفه وإيمانه.
أولئك الذين يعرفون قيمة النقاء لا يدّعون امتلاكه، بل يدركون كم هو هش، كم يحتاج إلى حراسة دائمة، كم هو عرضة للانكسار أمام لحظة ضعف، أو كلمة عابرة، أو نزوة خاطفة. لذلك، حين يخطئون، لا يرفعون أصواتهم بالتفاخر، لا يتخذون زلاتهم رايات يبررونها بحجة أنهم بشر، ينكفئون على أنفسهم، يبحثون في دواخلهم عن ذلك الضوء الذي انطفأ للحظة، ثم يعودون إليه بصمت، بلا جلبة، بلا استعراض. إنها معركة، يخوضها كل فرد مع ذاته قبل أن يخوضها مع العالم. التوبة ليست إعلانًا، والندم ليس مشهدًا يُعرض للفرجة، والخير ليس ادعاءً يُرتدى أمام العيون. إنما هي تلك اللحظات التي لا يراها أحد، حين يضع الإنسان يده على صدره، ويشعر بثقل ذنبه، حين يختلي بنفسه في حوار صادق لا يخدع فيه أحدًا، لا يتذرع بمبررات واهية، ينحني أمام ضعفه، ثم يقف من جديد أقوى، أشد عزماً، وأكثر صدقًا.
وهكذا يستمر السير، لا قداسة مطلقة، ولا سقوط بلا رجعة، بل خطوات تتفاوت في ثباتها، ونوايا تُختبر في خفائها، وأرواحٌ تظل، رغم كل شيء، تحاول. فها هي الحياة تمضي، متأرجحة بين خطوات تتقدم وأخرى تتراجع، بين أحلام تلوح في الأفق وأخرى تتبدد قبل أن تلامس أطراف الأصابع. المسافة بين السعي والانتظار، بين الحركة والسكون، ليست سوى مساحة رمادية يقف فيها المرء حائرًا، يتساءل إن كان عليه أن يدفع الأبواب المغلقة بكل ما أوتي من إرادة، أم يكتفي بمراقبتها، مترقبًا اللحظة التي تنفتح فيها من تلقاء نفسها.
الساعون يملؤون الطرقات، وجوههم مشرّبة بقلق المحاولة، أيديهم ممتدة نحو احتمالات لا يعرفون مصيرها، وأقدامهم ترسم فوق الأرض دروبًا من التحدي. ينامون على وسادة الأرق، ويستيقظون كل صباح وهم يحملون نفس السؤال: هل اقتربنا؟ هل ما زالت المسافات تُختصر؟ يدركون أن الطريق طويل، وأن العثرات حتمية، لكنهم يمضون رغم ذلك، ليس لأنهم متأكدون من الوصول، بل لأنهم يخشون فكرة الوقوف أكثر مما يخشون الفشل.
وفي الزوايا، هناك أولئك الذين اتخذوا الصمت ملاذًا، يترقبون مجيء الأيام كأنها موجة ستقذفهم إلى حيث يجب أن يكونوا، دون حاجة لبذل جهد، دون اضطرار لمقاومة التيار. يغمرهم شعور غامض بأن الأمور ستتغير، بأن الحياة ستنحني أمامهم يومًا ما، لكنها لا تفعل. فالزمن ليس سماءً تمطر على من يرفع يديه انتظارًا، ولا بابًا ينفتح لمن لم يطرقه، هو كائن متطلب، لا يمنح إلا لمن يبادر، ولا يلتفت إلى من يكتفي بالمراقبة.
بين هذين الطرفين، هناك أولئك الذين فهموا اللعبة، أدركوا أن السير ليس مجرد اندفاع، وليس انتظارًا محضًا، هو إيقاع متزن بين المحاولة والهدوء، بين بذل الجهد وإفساح المجال للصدفة، بين الكفاح والانصات لما تخبئه الحياة من إشارات خفية. هؤلاء لا يلهثون بجنون، ولا يستسلمون بكسل، يمشون بخطى مدروسة، يتركون أثرهم حيث يمرون، وينصتون إلى همسات الطريق، فلا يضيعون في زحام الركض، ولا يتآكلون في عزلة الركون.
وهكذا تمضي الأيام، لا تنتظر أحدًا، لا تمنح وعودًا مؤكدة، لكنها تترك لمن يجيد قراءتها فرصة، ولو ضئيلة، ليكون جزءًا من حكايتها.