رمضان زمنٌ للوعي والتغيير
أ.د سلطان المعاني
01-03-2025 10:06 AM
إن رمضان شهر يُضبط فيه الجسد على مواقيت الامتناع عن الطعام والشراب، وهو مساحة زمنية تتداخل فيها الروحانيات مع السلوكيات الاجتماعية، وتتجلى فيها طبائع الأفراد والمجتمعات. وعلى الرغم من أن جوهر الصوم يقوم على كبح الشهوات والانتصار على نوازع النفس، إلا أن هناك مفارقة تلفت الانتباه؛ فكلما ارتفع نداء الروح بالإمساك، علت أصوات الأسواق بالاستهلاك، وكأن الجوع لا يولّد التأمل والانضباط، بل يطلق العنان لرغبات كامنة تعود أكثر شراسة عند الإفطار.
ويُفترض أن يساهم رمضان في إعادة تشكيل عادات الإنسان، بحيث يكتسب الانضباط الذاتي ويتعلم الزهد في الكماليات، لكن الواقع يشير إلى اتجاه معاكس، حيث يتحول الشهر في كثير من البيئات إلى موسم استهلاكي بامتياز، فترتفع معدلات الشراء، وتتحول موائد الإفطار إلى ولائم مترفة تفوق حاجة الأفراد، ما يعكس تناقضًا جوهريًا بين فلسفة الصوم وسلوكيات الصائمين.
إن هذا التناقض لا ينحصر فقط في المسائل المادية، بل يمتد إلى البعد الأخلاقي؛ فالصائم الذي يمتنع عن الطعام لكنه يستسلم للعصبية، ويتعامل مع من حوله بتوتر بسبب الجوع، هو في حقيقة الأمر لم يدرك بعد جوهر الصيام كتمرين على كبح الغرائز، وليس فقط كحالة من الامتناع القسري عن الملذات.
إنّ العقلية الاستهلاكية التي تطغى في رمضان هي انعكاس لبنية اقتصادية وثقافية أوسع، حيث تتشكل لدى الأفراد نزعة لتعويض "الحرمان المؤقت" بانفجار استهلاكي لاحق، فيتزايد الإنفاق على الطعام، وترتفع معدلات الإسراف، وكأن الصيام لم يكن سوى تمهيد لولائم كبرى تعوض ساعات الجوع. والمفارقة الكبرى أن هذه النزعة الاستهلاكية تتعارض مع قيم الصوم الأساسية التي تدعو إلى الإحساس بالفقراء والمحتاجين. إذ كيف يمكن للصائم أن يدرك معنى الجوع وهو يحشد موائده بألوان الطعام التي تفوق حاجته؟ وكيف يمكنه أن يتعلم العطاء والتقاسم وهو يمارس الاستحواذ على السلع وتكديسها في بيته؟
إن الاستهلاك في رمضان لا يقتصر على المأكل والمشرب، ولكنه يتعداه إلى الترفيه والإعلانات التجارية التي تحاصر الصائم على مدار الساعة، وكأن الشهر قد فقد هويته الروحية وتحول إلى مناسبة ترويجية مغرقة في المادية.
لم يكن الصوم يومًا تمرينًا على الجوع، وإنما كان على الدوام تدريبًا على الحياة المتزنة. ولذا فإن التحدي الحقيقي في رمضان ليس مجرد مقاومة الجوع، بل مقاومة النزعة الاستهلاكية التي تسلب الشهر جوهره، وتجعل من الصيام مناسبة استهلاكية أخرى في عالم لا يكف عن تحويل كل شيء إلى سلعة.
إن إعادة الاعتبار لفلسفة الصيام تتطلب إعادة تعريف علاقتنا بالموارد، بحيث لا يكون الامتناع عن الطعام تأجيل زمني للأكل، فهو فرصة لإعادة التفكير في معنى الحاجة والاكتفاء. والتقاسم، في هذا السياق، فعل إحسان، وممارسة واعية ضد ثقافة الاستحواذ التي تخلق الفقر لا بسبب قلة الموارد، بل بسبب سوء توزيعها.
ولعلنا بحاجة إلى فهم رمضان كمجال مفتوح لإعادة التفكير في أنماط حياتنا، بحيث يكون الامتناع عن الطعام والشراب مقدمة لامتناع أشمل عن كل ما يفسد إنسانيتنا. إن رمضان يطلب منا أن نسمو، ويدعونا إلى الاكتفاء، ليكون الشهر محطة حقيقية لمساءلة الذات، لا مجرد فترة انتظار لوجبة الإفطار.
يأتي رمضان ليذكر الإنسان بأنه لم يكن يوماً كائنًا ماديًا خالصًا، فهو يحمل بعدًا روحيًا يحتاج إلى التغذية والتهذيب تمامًا كما يحتاج الجسد إلى الطعام. فالصوم الذي يمنعنا عن الملذات، يدربنا على التحرر منها، وكأن الإنسان يُختبر في قدرته على تجاوز حاجاته الفورية نحو مستويات أعلى من السيطرة على الذات. ففي الصيام، يكبح المرء غرائزه بوعي، ويواجه رغباته بقرار شخصي، مما يجعله في حالة اختبار دائم لإرادته. وهنا تتجلى قيمة الصوم كفعل إرادي لا يهدف إلى الحرمان بقدر ما يسعى إلى تحقيق التوازن، حيث يتعلم الإنسان كيف يكون سيد نفسه لا عبداً لشهواته.
رمضان ممارسة جماعية تعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية. فهو الشهر الذي تتجلى فيه قيم التكافل والتراحم، حيث يخرج الإنسان من دوائر ذاته الضيقة ليرى الآخرين من حوله بعين أكثر إنسانية. في الصيام، يشعر الغني بجوع الفقير، ويصبح الإحساس بمعاناة الآخرين تجربة حية وليست مجرد فكرة مجردة. وهذا الإدراك الحسي هو الذي يجعل رمضان موسمًا للعطاء، حيث يترجم الصائم هذا الوعي إلى أفعال ملموسة من الصدقة والمساهمة في تخفيف معاناة المحتاجين.
إذا كان رمضان يمنح الصائم فرصة لتهذيب الجسد والروح، فإنه أيضًا يقدم له إمكانية إعادة النظر في حياته ككل. فهو يطلب منه أن يصوم عن الطعام، وأن يصوم عن الغضب، وعن الأذى، وعن الإسراف، وعن الغيبة، وعن كل ما يلوث نقاء الروح.
إن التحدي الحقيقي في رمضان هو القدرة على الخروج منه مختلفًا، أكثر وعيًا بذاته، أكثر قدرة على التحكم في رغباته، وأكثر إحساسًا بمن حوله. فالغاية أن نكون بعد رمضان أقرب إلى الصورة التي نطمح أن نكون عليها.
رمضان منهج حياة يمكن أن يمتد تأثيره إلى ما بعد أيامه الثلاثين. إنه دعوة لإعادة التفكير في كل ما يشكل حياة الإنسان، من عاداته، إلى علاقاته، إلى منظوره تجاه نفسه وتجاه العالم. يضع رمضان الإنسان في مواجهة ذاته، فيعلّمه كيف يتحكم برغباته، ويضبط نزواته، ويخرج من دائرة الاستجابة الفورية للشهوات إلى مستوى أعمق من الوعي بالذات. في لحظة الجوع أو العطش، يكتشف الصائم أن الإرادة هي التي تحدد الإنسان، وأنه قادر على كبح نفسه متى شاء.
هذا التجلّي الروحي يجعل الصائم أكثر ميلًا للهدوء، وأكثر قدرة على ضبط انفعالاته، وأكثر وعيًا بآثار سلوكه على من حوله. وهكذا، يتحول الصيام من مجرّد اختبار للجسد إلى تمرين على النقاء الروحي والتسامي عن الانفعالات السلبية.
في زمن تسوده النزعة الفردانية، يأتي رمضان ليعيد تشكيل العلاقة بين الأفراد على أسس جديدة. فهو الشهر الذي يجمع العائلة حول مائدة واحدة بعد يوم طويل من الصيام، وهو الذي يعزز اللقاءات الاجتماعية في صلاة الجماعة، وفي إفطارات الخير، وفي المجالس الرمضانية التي تنبض بروح الودّ والتقارب. إن أحد أعمق تجلّيات رمضان الاجتماعية تكمن في إعادة التوازن بين الذات والآخر، حيث يتعلّم الفرد أن وجوده لا يكتمل إلا في سياق جماعي، وأن التضامن الإنساني ليس ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة لاستمرار الحياة بشكل صحي وسليم.
يتحوّل رمضان في كثير من المجتمعات الإسلامية إلى موسم ثقافي بامتياز، حيث تتجدد فيه المظاهر التراثية، وتزدهر الفنون المرتبطة به، ويعود الإنسان إلى جذوره من خلال العادات والتقاليد التي تميّز هذا الشهر.
القرآن الكريم يحتلّ مكانة مركزية في رمضان، فتُعقد مجالس التلاوة، وتُستعاد علاقة الإنسان مع كتابه المقدس، مما يجعل من رمضان لحظة ثقافية بامتياز، تتقاطع فيها الروح مع المعرفة، والإيمان مع الإدراك العميق لمعاني النصوص.
رمضان يشكل تجربة متكاملة تعيد تشكيل الإنسان من الداخل والخارج، بحيث يخرج منه أكثر صفاءً، وأكثر توازنًا، وأكثر وعيًا بذاته وبالعالم من حوله.
إن التجليات القيمية لرمضان لا ينبغي أن تكون مجرد طقوس موسمية، بل يجب أن تتحول إلى نمط حياة، حيث يستمر الصائم في حمل روح رمضان معه بعد انتهائه، ليكون أكثر وعيًا بعلاقته مع ذاته، وأكثر مسؤولية تجاه مجتمعه، وأكثر حرصًا على بناء حياة أكثر إنسانية وأعمق معنى.