facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حوار الصفقات في دبلوماسية القوة


أ.د سلطان المعاني
02-03-2025 01:09 AM

لطالما كانت الدبلوماسية فنّاً من فنون الحكم وإدارة العلاقات الدولية، وانعكاسًا لموازين القوى والاعتبارات الاستراتيجية التي تحكم الدول. وجاءت الدبلوماسية عبر التاريخ لغة تفاوض وقنوات تواصل بين الأطراف المختلفة، وأداة فاعلة في تشكيل التحالفات، وفرض الهيمنة، أو حتى حفظ السلام. غير أن المشهد السياسي العالمي اليوم يشهد تحوّلًا لافتًا، حيث تحولت اللقاءات الدبلوماسية إلى ساحة لفرض الإرادات، وتحديد من يمتلك القوة ليضع الشروط، ومن عليه أن يذعن أو يناور للبقاء. في ظل هذا الواقع، لم تعد التقاليد الدبلوماسية القديمة التي حكمت العلاقات الدولية صامدة أمام موجة جديدة من دبلوماسية القوة، حيث تحوّلت المفاوضات من مساحة لتحقيق المصالح المشتركة إلى اختبار صارم لميزان القوى بين الأطراف. فبينما كانت الدبلوماسية الكلاسيكية تقوم على التفاهمات الضمنية والاحترام المتبادل حتى بين الخصوم، باتت اليوم تُدار بمنطق العروض والصفقات، حيث يصبح الدعم المالي والسياسي والعسكري وسيلة لشراء الولاءات، وفرض الأجندات، بدلًا من أن يكون أداة لتعزيز التعاون المتكافئ.

وحين يصبح الحوار في قاعات التفاوض استعراضًا للقوة، يظهر نوعان من القادة؛ الأول يعتلي منصة الحوار من موقع الهيمنة، مستندًا إلى قوته الاقتصادية أو العسكرية، ليضع الشروط ويملي القرارات من منطلق أن العطاء له ثمن. وهذا القائد الذي يفترض أن ينظر إلى العلاقات الدولية كشراكة متكافئة، فإنه، خلاف ذلك، يراها عملية تجارية، حيث تُوزن المصالح بميزان الربح والخسارة، ومن لا يستطيع الدفع أو لا يقبل الشروط يُقصى أو يُعاقب. أما النموذج الثاني، فهو القائد الذي يدرك أنه في موقف تفاوضي أضعف، لكنه يرفض التنازل عن السيادة السياسية. هو يدرك تمامًا أن حاجته إلى الدعم لا تعني خضوعه للإملاءات، فيلجأ إلى استراتيجيات المناورة والمساومة الذكية ليحافظ على أكبر قدر ممكن من استقلاليته. هذا القائد لا يرفض التعاون، لكنه يُعيد تعريف شروطه، بحيث لا يتحول الدعم إلى أداة إذلال، قدر ما هو آلية لتحقيق المصالح المشتركة دون المساس بكرامة الدولة.

وبين هذين النموذجين، تتراوح أنماط الدبلوماسية الحديثة، حيث بات الدعم المقدم لأي دولة، سواء كان اقتصاديًا أو عسكريًا، يرافقه خطابٌ علنيٌّ يعكس منطق الإذلال السياسي، حيث يُطلب من المتلقي الاعتراف العلني بالفضل، والإقرار بأن نجاته السياسية أو العسكرية كانت رهينة لمساعدة الطرف الأقوى. غير أن التاريخ أظهر أن بعض القادة يدركون هذه اللعبة جيدًا، ويجيدون تفكيك قواعدها، بحيث لا يسمحون لأنفسهم بالتحوّل إلى أدوات في يد المانحين، وينجحون في تحويل الحاجة الآنية إلى ورقة ضغط تمكنهم من تحقيق مكاسب طويلة الأمد.

وفي المشهد الدبلوماسي الراهن، تتكرّر صورة التاجر اليهودي شيلوخ من مسرحية شكسبير تاجر البندقية، حيث يطالب القوي بحقه في رطل من اللحم من جسد المدين، غير آبهٍ بالعواقب، مستندًا إلى منطق العقود التي تمنحه السلطة على الطرف الأضعف. وفي السياسة العالمية اليوم، فإن الدَّين المالي أو العسكري أرقام في دفاتر الحسابات، ورافعة تُستخدم للابتزاز السياسي وفرض جداول أعمال معينة، حتى لو كان الثمن هو استنزاف سيادة الدول المستهدفة.

غير أن التاريخ لم يكن يومًا ساحةً للأقوياء وحدهم. فبينما يحاول بعضهم فرض شروطهم عبر الابتزاز، يظهر من يتحدّى هذا المنطق، حتى وإن بدا موقفه ضعيفًا في البداية. ففي أكثر من ساحة سياسية اليوم، نشهد محاولات مستميتة لفرض تنازلات على دول وقادة مقابل استمرار تلقيهم للدعم، لكن في المقابل، نشهد أيضًا من يرفض الانصياع، ولو كلّفه ذلك مزيدًا من الأزمات. فهناك دومًا لحظات تاريخية يعيد فيها التوازن إلى العلاقات الدولية، سواء عبر القوة المادية، أو عبر الإرادة السياسية وحسن إدارة التفاوض.

إن ما يبقى في نهاية كل لقاء دبلوماسي الطريقة التي سيُقرأ بها هذا المشهد في صفحات التاريخ. فالتاريخ يخلّد من يمنح المساعدات، ولكنه يخلد أيضاً من يرفض الانحناء. وإنه لا يسجّل من ساوم، وإنما يعلي شأن من قاوم. فحين تتغير موازين القوى، يبقى السؤال الأهم: هل ستُذكر هذه اللحظات كنقاط تحوّل فارقة في السياسة الدولية، أم ستنكزن أحداثاً عابرة لم تغير شيئًا؟





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :