اقتصاد البلديات والاستثمار
د. صالح سليم الحموري
02-03-2025 08:36 PM
في ظل التطورات الاقتصادية العالمية، يبرز مفهوم "اقتصاد البلديات" كنموذج يحمل دروسًا مهمة للدول التي تسعى إلى تحقيق "التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي". خلال مشاهدتي لمحاضرة الخبيرة الاقتصادية الصينية كيو جن على منصة "TED" لفت انتباهي النهج الفريد الذي تتبعه الصين في تحفيز "الابتكار" عبر البلديات، وهو نموذج يجمع بين المركزية السياسية واللامركزية الاقتصادية.
عاشت الصين في الثمانينيات واقعًا من الندرة، حيث كانت الموارد محدودة، والبنية التحتية ضعيفة، وكان الشعب يعتمد على أنظمة تقنين في الغذاء والطاقة. لكن خلال العقود الثلاثة الماضية، تحولت الصين إلى دولة وفرة، خاصة في مجال التكنولوجيا. هذا التحول لم يكن صدفة، بل نتيجة لنموذج اقتصادي غير تقليدي قائم على شراكة فريدة بين القطاعين العام والخاص. ما يميز الصين في دفع عجلة الابتكار هو نموذج "اقتصاد البلديات، حيث تلعب الحكومات المحلية دورًا رئيسيًا في دعم الشركات الناشئة والمؤسسات الابتكارية. وعلى عكس الاعتقاد السائد بأن الحكومة الصينية تتبنى نهجًا مركزيًا صارمًا، فإن البلديات تتمتع بمرونة اقتصادية كبيرة تتيح لها دعم المشاريع وفقًا لاحتياجات كل مدينة أو إقليم.
من الأمثلة البارزة على نجاح هذا النموذج قصة شركة Nio، إحدى كبرى شركات السيارات الكهربائية في الصين، والتي بدأت بالتوسع عالميًا، بما في ذلك الدول العربية ومنها الأردن. عندما واجهت الشركة أزمة مالية حادة بعد إدراجها في بورصة ناسداك، تدخلت حكومة مدينة هيفاي (التي يبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة) لإنقاذها عبر ضخ مليار دولار مقابل 25% من أسهم الشركة، بالإضافة إلى تسهيل القروض وتنظيم سلسلة توريد متكاملة لدعم الإنتاج. خلال عام واحد، ارتفعت قيمة الشركة من 4 مليارات دولار إلى 100 مليار دولار، مما وفر للحكومة المحلية عائدات ضخمة وفرص عمل جديدة.
يعتمد نجاح "اقتصاد البلديات" على مجموعة من العوامل التي تخلق بيئة مواتية للنمو والابتكار. أحد أهم هذه العوامل هو الدعم الحكومي المرن، حيث تقدم البلديات التمويل اللازم للشركات الناشئة، وتعمل على تسهيل الإجراءات القانونية، وتستثمر في تطوير البنية التحتية لضمان نمو مستدام. كما أن التنافس بين المدن يلعب دورًا محوريًا، حيث تسعى كل مدينة إلى جذب أفضل الشركات والمشاريع من خلال تقديم حوافز مغرية، مما يعزز من الديناميكية الاقتصادية ويحفز بيئة الابتكار. إضافة إلى ذلك، يعد تكامل سلاسل التوريد عاملاً أساسيًا في نجاح هذا النموذج، إذ يؤدي التعاون بين الصناعات المحلية إلى زيادة الإنتاجية وتقليل التكاليف التشغيلية، مما يساعد الشركات على التوسع بسرعة وكفاءة. كما أن البلديات تدرك أهمية التحفيز على الابتكار، فتقوم بتوفير الدعم اللازم للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، مما يمهد الطريق أمام الاختراعات الجديدة والنمو المستدام. وأخيرًا، يعتمد نجاح اقتصاد البلديات بشكل كبير على التخطيط الاستراتيجي، حيث تستثمر الحكومات المحلية في القطاعات المستقبلية مثل السيارات الكهربائية، الطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، لضمان استمرارية النمو وتعزيز تنافسية الاقتصاد المحلي على المستوى العالمي.
يقدم النموذج الصيني درسًا مهمًا للدول التي تسعى إلى تعزيز الابتكار على المستوى المحلي. فالاقتصاد المحلي لا ينبغي أن يعتمد فقط على "التمويل الحكومي المركزي"، بل يجب أن تمنح البلديات "استقلالية كافية لدعم المشاريع الناشئة"، و"جذب الاستثمارات"، و"تطوير بيئات عمل تشجع على الابتكار". إن تطبيق نموذج اقتصاد البلديات في الدول النامية قد يكون مفتاحًا لتحفيز "التنمية المحلية المستدامة". عندما يكون "رؤساء البلديات" أصحاب مصلحة حقيقية في النجاح الاقتصادي لمدنهم، يصبح لديهم دافع أقوى لدعم الشركات، وخلق فرص العمل، وتحسين جودة الحياة لسكانهم. فهل يمكن أن يكون هذا النموذج هو المفتاح لنهضة اقتصادية جديدة في الاردن؟ وهل ستتمكن بلدية إربد، أو بلدية معان، أو غيرها من البلديات من استقطاب مشاريع كبرى وتقديم الحوافز اللازمة لدفع عجلة النمو؟