السياحة رافعة اقتصادية وجسر حضاري
أ.د سلطان المعاني
03-03-2025 08:24 AM
تلعب السياحة دورًا محوريًا في الاقتصاد الوطني الأردني، إذ تمثل أحد الروافد الأساسية للعملات الأجنبية وتسهم في توفير فرص العمل وتعزيز التنمية المستدامة. وقد باتت السياحة أداة استراتيجية لتعزيز القوة الاقتصادية للدول، خاصة تلك التي تمتلك إرثًا حضاريًا وثقافيًا غنيًا كالأردن. فالاستثمار في هذا القطاع خيار اقتصادي مهم، وضرورة وطنية تتطلب التخطيط الاستراتيجي والتوظيف الأمثل للموارد، بما يعكس صورة الأردن الحضارية ويعزز مكانته كوجهة سياحية عالمية.
لقد شهد القطاع السياحي الأردني في السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا، انعكس على ارتفاع الدخل السياحي للمملكة بنسبة 22.8% ليصل إلى 680 مليون دولار حتى نهاية كانون الثاني من العام الجاري، وفقًا لبيانات البنك المركزي الأردني. ويعزى هذا النمو إلى عوامل متعددة، أبرزها الجهود الحكومية في الترويج للوجهات السياحية، وتحسين الخدمات والبنية التحتية، وتبني استراتيجيات مستدامة تسهم في استقطاب السياح من مختلف أنحاء العالم. كما أن الدور المتنامي للسياحة الثقافية والتراثية يشكل عامل جذب رئيسي، حيث يتوافد الزوار لاكتشاف المواقع التاريخية الفريدة، فضلًا عن البيئة الطبيعية الاستثنائية في وادي رم والبحر الميت.
وإلى جانب الأثر الاقتصادي المباشر، تلعب السياحة دورًا جوهريًا في ترسيخ الهوية الثقافية وتعزيز التفاعل مع الشعوب الأخرى. فالتجارب السياحية تشكل فرصة للتعرف على الثقافة المحلية والعادات والتقاليد، مما يخلق جسورًا للحوار بين الشعوب. في هذا الإطار، تمثل الفعاليات والمهرجانات الثقافية، مثل مهرجان جرش للثقافة والفنون، منصات فاعلة تسلط الضوء على التراث الأردني وتفتح المجال أمام التبادل الثقافي بين الأردن والعالم.
ورغم هذه الإيجابيات، لا يزال القطاع السياحي يواجه تحديات تتطلب حلولًا مبتكرة لتعظيم الفوائد الاقتصادية والثقافية. فالتغيرات الجيوسياسية والتقلبات الاقتصادية العالمية تؤثر بشكل مباشر على تدفق السياح، ما يستدعي تنويع الأسواق المستهدفة وعدم الاعتماد على أسواق تقليدية محددة. كما أن تحسين مستوى الخدمات وتطوير منظومة النقل والبنية التحتية السياحية الجيدة يعد ضرورة ملحة لضمان تجربة سياحية متكاملة تلبي تطلعات الزوار. إضافةً إلى ذلك، فإن تبني مفهوم السياحة المستدامة أصبح ضرورة لمواكبة التوجهات العالمية، من خلال المحافظة على المواقع الأثرية والبيئية وتقليل الأثر البيئي للنشاط السياحي. وفي ضوء هذه المعطيات، ينبغي النظر إلى السياحة بوصفها قطاعًا استثماريًا طويل الأمد، يتطلب سياسات واضحة ودعائم قانونية وتنظيمية تعزز من قدرته التنافسية. فتحسين البيئة الاستثمارية أمام القطاع الخاص، وتطوير المنتجات السياحية بما يتناسب مع متطلبات السياحة الحديثة، مثل السياحة البيئية والطبية، يمكن أن يسهم في زيادة مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي.
إن تعظيم دور السياحة يعتمد على الترويج الخارجي، كما يشمل كذلك تحفيز السياحة الداخلية وتعزيز وعي المجتمع المحلي بأهمية هذا القطاع، لما له من انعكاسات إيجابية على الاقتصاد والثقافة والتوظيف. إن بناء نموذج سياحي ناجح يتطلب تكامل الجهود بين القطاعين العام والخاص، في إطار رؤية شاملة تسعى لجعل الأردن وجهة سياحية دائمة وليس مجرد محطة عابرة في خطط المسافرين.
في ظل الأوضاع العالمية غير المستقرة والتوترات الاقتصادية والسياسية التي تلقي بظلالها على مختلف القطاعات، تبرز السياحة كإحدى الأدوات القادرة على خلق بيئات تلاقي وتفاعل إيجابي بين الشعوب، مما يساهم في تعزيز التفاهم الثقافي وتقليل الفجوات بين المجتمعات المختلفة. فالسياحة كونها تشكل محركًا اقتصاديًا، فإنها أيضاً تمتلك بعدًا إنسانيًا عميقًا، إذ تتيح للأفراد فرصة اختبار تجارب ثقافية مغايرة، والتفاعل مع أنماط حياة وتقاليد تختلف عن تلك التي ألفوها، مما يعزز من قيم التسامح والانفتاح.
والأردن، بموقعه الجغرافي الفريد وتاريخه العريق، يمتلك القدرة على أن يكون نموذجًا لهذا التلاقي الثقافي. إذ يعد نقطة التقاء الحضارات منذ العصور القديمة، حيث مرّت به أعرق الإمبراطوريات وترك كل منها بصماته على موروثه الثقافي الغني. واليوم، يمكن للسياحة أن تعيد إحياء هذا الدور، من خلال تعزيز التبادل الثقافي، عبر استقطاب السياح الأجانب، ومن خلال توظيف الأنشطة السياحية كمحور للحوار الحضاري. فالمهرجانات الفنية، والأسواق الحرفية، والجولات التراثية التي تربط السياح بالسكان المحليين، كلها أدوات فعالة في بناء جسور التواصل بين الثقافات.
أما على المستوى الاقتصادي، توفر السياحة فرصًا واسعة للنمو، خاصة في ظل التباطؤ الاقتصادي العالمي الذي فرض تحديات كبيرة على العديد من الدول. فبينما تعاني الأسواق المالية من تقلبات حادة، تظل السياحة أحد القطاعات القادرة على توليد فرص العمل وتعزيز الأنشطة الاقتصادية المحلية. وفي الأردن، يمكن أن يكون تعزيز السياحة الداخلية أحد الحلول الاستراتيجية لمواجهة تداعيات الأزمات العالمية، حيث يسهم في دوران رأس المال داخل الاقتصاد الوطني، ويشجع الاستثمار في قطاعات الضيافة والنقل والخدمات الترفيهية.
ويتطلب تحقيق هذه الأهداف تجاوز العديد من التحديات، وفي مقدمتها الحاجة إلى تطوير منظومة متكاملة للسياحة المستدامة. فمع تزايد الوعي البيئي عالميًا، بات من الضروري تبني سياسات تضمن الحفاظ على المواقع التراثية والطبيعية، دون الإضرار بالموارد البيئية أو التسبب في تدهور المعالم التاريخية بفعل التدفق السياحي غير المنظم. وفي هذا السياق، يمكن توظيف التكنولوجيا الحديثة في تنظيم السياحة، عبر استخدام التحليلات الذكية لتوزيع أعداد الزوار ومنع التكدس في المواقع الحساسة، إلى جانب تطوير مسارات سياحية جديدة تسهم في توزيع العائدات الاقتصادية على نطاق أوسع، ويسير الأردن نحو تحقيق هذه الرؤى بشكل فاعل في تحقيق الاستدامة وتعظيم المدخول السياحي على حدٍ سواء.
ومن جهة أخرى، يشكل الاستثمار في رأس المال البشري عنصرًا أساسيًا لنجاح القطاع السياحي. فتعزيز مهارات العاملين في القطاع، سواء من خلال تدريبهم على معايير الضيافة العالمية أو تمكينهم من مهارات التواصل بين الثقافات، يعد ركيزة أساسية لرفع مستوى الخدمة وتحقيق تجربة سياحية متميزة تعزز من سمعة الأردن كوجهة رائدة في الشرق الأوسط. ولعل الجهود في هذا السياق حثيثة في الرقي بالقطاع السياح سواء في الجامعات الأردنية التي ترفد السوق الوطني بكوادر أردنية مؤهلة، وبالسعي الحثيث في وزارة السياحة لتعظيم حضور هذا القطاع في مختلف منظوماته.
إن السياحة قطاع اقتصادي يسهم في زيادة الدخل الوطني، وهي رسالة حضارية تعكس هوية الدول وتوجهاتها الثقافية. وإذا ما تم إدارتها بذكاء واستراتيجية مستدامة، فإنها قادرة على أن تصبح عنصر استقرار وتنمية، حتى في ظل الأوضاع العالمية المتقلبة. وبالنسبة للأردن، فإن المزاوجة بين الترويج السياحي والاستثمار في البنية التحتية البشرية والمادية، إضافة إلى تبني نهج مستدام يراعي القيم البيئية والثقافية، يمكن أن تجعل من السياحة نموذجًا يُحتذى به في تحقيق التنمية الاقتصادية والتواصل الحضاري في آن واحد، وقد قطعنا، في الأردن، شوطاً مهماً في هذه السياقات.