facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




بين الشرق والغرب


أ.د سلطان المعاني
06-03-2025 08:45 AM

لطالما كان الشرق شرقًا والغرب غربًا، في نظرة ظاهرية تعكس المسافات الشاسعة بينهما فكرياً، وثقافياً، وتاريخياً، وجغرافياً. غير أن هذه الجدلية معادلة متحركة تتداخل فيها عناصر التلاقي والاختلاف في نسيج معقد من الفعل والتفاعل، كأنها رقصة أزلية بين الجذور العميقة والرياح العاتية، بين الثوابت والمتغيرات، بين المحافظة والتجديد.

فالشرق في مخيلة الغرب، أرض الأسرار والمرويات العجائبية، حيث تتشابك الروحانيات بالحكمة العتيقة، وحيث الزمن يبدو دائريًا، متصلًا بأبديته كأنه لا يعرف القطائع الحاسمة التي أنتجها المسار الحداثي الغربي. أما الغرب، فلطالما نظر إلى ذاته باعتباره قاطرة التقدم، ومحرك الحداثة، ومهد العقلانية التي حررت الإنسان من قيد الأسطورة إلى فضاء العلم. وعلى الرغم من هذا التباين، فإن العلاقة بين الشرق والغرب لم تكن يومًا علاقة عزلة مطلقة، فظلت تتخذ طابعًا مركبًا، تتجاذبها روح الاستيعاب حينًا، والتنافر حينًا آخر، وفق معطيات التاريخ وسياقات القوة.

لقد كان الشرق، في أزمنة مجده، مصدرًا للمعرفة التي تدفقت إلى الغرب عبر قنوات شتى، بدءًا من الترجمة في بيت الحكمة، إلى الأثر العميق الذي تركته الفلسفة الإسلامية على مفكري أوروبا في القرون الوسطى، حيث انتقل ميراث الفلسفة اليونانية إلى الغرب عبر عدسة الفكر الإسلامي. ومن المفارقات أن النهضة الغربية الحديثة، التي قامت على أسس عقلانية وعلمية، لم تكن لتتبلور دون هذه الجسور الفكرية التي مهدت لها، ومع ذلك، حين اشتد عود الحداثة الغربية، اتخذت موقفًا متعاليًا تجاه الحضارات الأخرى، لا سيما الشرقية، معتبرة إياها عالقة في ماضيها، غير قادرة على اللحاق بالركب.

غير أن هذا التصور ليس سوى انعكاس لمنظور القوة الذي طالما أعاد تشكيل فهمنا للعالم. فكما كان الغرب ينظر إلى الشرق كآخر غامض، كان الشرق ينظر إلى الغرب كقوة طاغية، اجتاحت أرضه بأفكارها، واقتصادها، وآلتها العسكرية، محاولة فرض نموذجها القيمي والمادي. ومع ذلك، لم يكن الشرق متلقيًا سلبيًا لهذا الغزو الحضاري، فجاءت استجاباته متنوعة، تباينت بين الرفض المطلق، والتكيف، والتلاقح الخلاق الذي تمثل في حركات فكرية حاولت استيعاب الحداثة الغربية من دون التفريط بالهوية الذاتية.

وفي صميم هذه الجدلية، يكمن سؤال جوهري: هل نحن أمام اختلاف جوهري لا يمكن تجاوزه بين الشرق والغرب، أم أن الأمر لا يعدو كونه تراكمًا من التصورات المتبادلة التي شكلتها لحظات تاريخية معينة؟ إن من يتأمل في الواقع يجد أن الفوارق التي تبدو جوهرية في ظاهرها ما هي إلا نتاج شروط تاريخية وسياسية متغيرة، وأن الإنسان، شرقيًا كان أو غربيًا، تظل هواجسه الكبرى واحدة: البحث عن المعنى، والرغبة في تحقيق الذات، والسعي إلى الحرية.

إن جوهر العلاقة بين الشرق والغرب لم تكن صراعًا بين ماهيتين متناقضتين، قدر ما هو تدافع بين رؤى للعالم، تتحرك في فضاء معقد من التأثير والتأثر. فكما أن الغرب لم يعد ذلك الكيان العقلاني البارد الذي يراه البعض، وأصبح عالمًا متعدد الأصوات تتنازعه تيارات فكرية متضاربة، فإن الشرق لم يعد موئلاً للروحانيات والتقاليد، وصار ساحة صراعات فكرية تبحث عن موقعها في العصر الحديث. وما بين هذه التناقضات، ينشأ فضاء ثالث، ليس شرقيًا محضًا ولا غربيًا خالصًا، هو ذلك الحيز الإبداعي الذي تلتقي فيه الثقافات دون أن تذوب، وتتحاور دون أن تفقد جوهرها.

قد يكون الشرق شرقًا والغرب غربًا، لكنهما ليسا كيانين مغلقين على ذاتيهما، فهما قوتان حضاريتان متفاعلتان، تلتقيان حينًا، وتفترقان حينًا، في دورة أزلية تحكمها جدلية التلاقح والتباين، التجاذب والتنافر. وما دام الإنسان قادرًا على التفكير، والتساؤل، وإعادة تشكيل هويته، فإن هذه الجدلية لن تكون نهاية طريق، ولعلها بداية مسار مفتوح على احتمالات لا نهائية.

ولطالما شكلت ثنائية الفردانية والجماعة أحد الأبعاد الجوهرية في فهم الفروقات العميقة بين الشرق والغرب، لا بوصفها اختلافًا استاتيكياً ثابتًا، ولكن باعتبارها انعكاسًا لمسارات تاريخية وثقافية متشابكة، أسهمت في تشكيل الوعي الجمعي لكلا الطرفين. فالشرق، في عمقه الحضاري، ارتكز على مبدأ الجماعة، حيث الفرد جزء من نسيج اجتماعي متماسك، تحدد هويته من خلال انتمائه إلى العائلة، القبيلة، الأمة، أو حتى العقيدة. أما الغرب، فقد صنع هويته الحديثة على أساس الفردانية، حيث الإنسان كيان مستقل، صاحب إرادة حرة، مسؤول عن مصيره بمعزل عن أي انتماء خارجي.

إن جذور هذا التباين تعود إلى الفلسفات الكبرى التي شكلت رؤية كل حضارة للوجود. في الشرق، تتجذر الرؤية الجماعية في تصورات دينية وفكرية ترى في الإنسان جزءًا من كل، خاضعًا لمنظومة قيمية تنظم وجوده ضمن سياق أوسع. في الفكر الكونفوشيوسي، الفرد ليس كيانًا قائمًا بذاته، فهو خلية في جسد المجتمع، لا تتحقق حقيقته إلا من خلال أداء دوره في نظام اجتماعي متكامل. وفي الفلسفة الإسلامية، تتجلى هذه الرؤية في مفهوم "الأمة"، حيث تترابط مصائر الأفراد تحت مظلة عقد اجتماعي روحي وأخلاقي. حتى في التصورات الصوفية، يبدو الفرد مندمجًا في تيار كوني أكبر، ساعيًا إلى الفناء في المطلق بدلاً من تأكيد ذاته المستقلة.

أما في الغرب، فقد كان للموروث اليوناني دور بارز في بلورة النزعة الفردانية، حيث الفلسفة السقراطية أعلت من شأن التفكير الحر والمسؤولية الشخصية، بينما وضع الفكر الأرسطي أسسًا لرؤية الإنسان باعتباره كائنًا عقلانيًا قادرًا على تحقيق ذاته من خلال فعله الخاص. ومع صعود الحداثة، ترسخت هذه الفردانية في الفكر الليبرالي الذي جعل من الحرية الشخصية القيمة العليا، مؤكّدًا أن الإنسان، في جوهره، ذات مستقلة، لا ينبغي أن تخضع لأي سلطة غير إرادته الخاصة.

غير أن هذا التباين لا ينبغي فهمه كنقيض صارم بين كتلتين متصلبتين، فهو أقرب إلى طيف من التدرجات والتقاطعات. فقد أنتجت الفردانية الغربية، رغم إيجابياتها في تعزيز حرية الإنسان وإبداعه، حالة من العزلة الوجودية جعلت الإنسان المعاصر تائهًا في عالم تحكمه الآلة والمنفعة. وفي المقابل، ورغم ما توفره الجماعية الشرقية من شعور بالأمان والارتباط، فإنها كثيرًا ما أدت إلى طمس الذات الفردية وإخضاعها لمعايير صارمة تحد من الإبداع والتجدد.

واليوم، في ظل العولمة التي تذيب الحدود بين الثقافات، نجد الشرق يميل إلى استيعاب النزعة الفردية، والغرب يعيد اكتشاف أهمية الروابط الجماعية. لقد أصبحت المجتمعات الشرقية أكثر وعيًا بأهمية الحريات الشخصية، تمامًا كما أدركت المجتمعات الغربية الحاجة إلى استعادة الشعور بالمجتمع والانتماء. وهكذا، لم تعد الثنائية الحادة بين الفردانية والجماعة صالحة للتفسير المطلق، حيث باتت عملية جدلية مستمرة، حيث يسعى الإنسان، شرقيًا كان أم غربيًا، إلى التوازن بين حاجته إلى الحرية وحاجته إلى الانتماء.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :