يوم المرأة العالمي مناسبة تعبر عن التقدير والامتنان للمرأة في مختلف المجتمعات، مسلطة الضوء على إنجازاتها ودورها في تطور الحضارات والتقدم الإنساني. يمثل هذا اليوم تذكيراً بمسيرتها التاريخية الحافلة، والتحديات التي واجهتها عبر العصور للوصول إلى مكانتها الحالية. منذ أقدم العصور، كانت المرأة ركيزة أساسية في استقرار المجتمعات وتطورها، حيث أسهمت في اكتشاف الزراعة، مما أدى إلى نشوء القرى ثم المدن، فكان ذلك حجر الأساس في قيام الحضارات الكبرى التي اعتمدت على الاستقرار والتنظيم والإنتاج.
وقد ظهرت فكرة الاحتفال بهذا اليوم خلال أوائل القرن العشرين، حيث شهد العام ألف وتسعمائة وثمانية خروج آلاف النساء في مدينة نيويورك في مظاهرات طالبن فيها بتحسين ظروف العمل، وتقليص ساعات الدوام، والحصول على حق التصويت، فشكلت هذه الاحتجاجات تحولاً بارزاً في مسيرة الحركات النسوية، إذ سلطت الضوء على واقع المرأة في بيئات العمل والمجتمع. في العام التالي، أعلن الحزب الاشتراكي في الولايات المتحدة عن أول احتفال وطني بهذا اليوم، حيث تم إحياؤه في اليوم الثامن والعشرين من شهر شباط، وذلك تعبيراً عن دعم مطالب النساء العاملات.
اكتسبت هذه الفكرة بعدًا عالميًا حينما قدمت الناشطة الألمانية كلارا زيتكين مقترحًا خلال مؤتمر دولي للنساء العاملات انعقد في مدينة كوبنهاغن في العام ألف وتسعمائة وعشرة، يقضي بتخصيص يوم يُحتفى به في مختلف البلدان تعبيرًا عن دعم حقوق المرأة وتعزيز المساواة بين الجنسين. لقي هذا المقترح تأييدًا واسعًا، فأقيمت أولى الفعاليات في اليوم التاسع عشر من شهر آذار من العام ألف وتسعمائة وأحد عشر، حيث شهدت دول مثل ألمانيا والنمسا والدنمارك وسويسرا احتفالات بهذه المناسبة.
واصل هذا اليوم تطوره مع مرور الأعوام، وشمل عددًا أكبر من الدول، خاصة بعد الأدوار المهمة التي قامت بها النساء في الحركات الثورية والأحداث الكبرى. في العام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، شهدت روسيا حدثًا بارزًا حين خرجت النساء في إضراب واسع رفع مطالب تتعلق بالخبز والسلام، فكان لهذا التحرك أثر كبير في حصول المرأة على حق التصويت في البلاد.
في العام ألف وتسعمائة وسبعة وسبعين، أصدرت منظمة الأمم المتحدة قرارًا بالاعتراف بهذا اليوم، ليصبح احتفالًا عالميًا يوافق اليوم الثامن من شهر آذار، حيث تُنظم فيه الفعاليات التي تسلط الضوء على إسهامات النساء في المجتمعات، وتُناقش القضايا المتعلقة بحقوقهن، مع التركيز على السعي نحو تحقيق العدالة والمساواة.
في العصور الأولى، حين اعتمد الإنسان على الصيد وجمع الثمار كمصادر رئيسية للغذاء، اضطلعت المرأة بدور أساسي في اكتشاف إمكانات زراعة النباتات، والعناية بالمحاصيل، وحفظ البذور، مما شكل تحولًا جوهريًا في مسيرة البشرية. لم يكن هذا التحول مجرد وسيلة لإنتاج الغذاء، بل كان الأساس الذي قامت عليه المجتمعات المستقرة، والتي تطورت مع الزمن إلى كيانات كبيرة امتدت لتصبح دولًا وإمبراطوريات. أتاح الإنتاج الزراعي فائضًا غذائيًا مكّن الإنسان من التفرغ لتطوير مجالات متعددة، منها الصناعة والتجارة والفنون، فكان للمرأة إسهام رئيسي في النهضة الاقتصادية والاجتماعية منذ أقدم الأزمنة.
مع تطور المجتمعات التي اعتمدت على الزراعة وظهور الأنظمة الإدارية والسياسية، تجاوز دور المرأة العمل في زراعة الأراضي ليشمل الإشراف على شؤون الحياة اليومية، وإدارة الموارد، وإتقان الحرف اليدوية التي ساهمت في دعم الاقتصاد المحلي. شهدت الحضارات الكبرى، ومنها حضارة وادي النيل وبلاد الرافدين، حضورًا بارزًا للمرأة في مختلف المجالات، حيث مارست التجارة، وأسهمت في الطقوس الدينية، وتولت مناصب قيادية، كما يظهر في سير العديد من الملكات اللواتي خلد التاريخ أسماؤهن. مع تعاقب الحقب الزمنية، تغيرت طبيعة الأدوار التي شغلتها المرأة، فواصلت مسيرتها في بناء المجتمعات وترسيخ الاستقرار داخل الأسرة والمحيط الاجتماعي.
لقد شهد التاريخ محطات متعددة كانت فيها المرأة في طليعة الحركات الإصلاحية التي سعت إلى ترسيخ مبادئ العدالة والمساواة، فبذلت جهودًا متواصلة من أجل تحقيق حقوقها والمشاركة الفاعلة في مختلف جوانب الحياة. مع دخول العصور الحديثة، وبفضل الإسهامات التي قدمتها في مجالات التعليم والعمل والسياسة، ازدادت أدوارها في عملية صنع القرار، وظهرت شخصيات نسائية بارزة في مواقع القيادة على امتداد العالم. لم يقتصر تأثيرها على هذه المجالات، بل امتد ليشمل الاكتشافات العلمية، والإبداعات الفنية، والبحوث الفلسفية، والمشاركة في وضع القوانين والتشريعات التي أسهمت في صياغة ملامح العالم الحديث.
شهدت العقود الأخيرة تقدمًا ملحوظًا في مختلف القضايا المرتبطة بالمرأة، غير أن تحديات عديدة لا تزال قائمة، من بينها التفاوت في مستويات الأجور، وتفاوت الفرص المتاحة، وتفاوت التمثيل في المواقع القيادية، إلى جانب تأثير بعض العادات التي تعيق طموحها. غير أن الإرادة الصلبة التي أظهرتها النساء عبر الأزمنة تثبت أن هذه التحديات لا تشكل سوى مراحل في مسيرة الوصول إلى العدالة الاجتماعية والتكافؤ في الفرص. ويمثل الاحتفاء بيوم المرأة العالمي مناسبة للتأمل في الإنجازات التي تحققت والتطلعات التي لا تزال تنتظر التحقيق، وهو ليس مجرد لحظة لتقدير الإسهامات، بل هو تأكيد على أهمية مواصلة الجهود لبناء مستقبل يسوده الإنصاف، حيث تتمتع المرأة بحقوق وفرص متكافئة تتيح لها تحقيق إمكاناتها والمساهمة في تطوير المجتمعات.
تمثل المرأة ركيزة أساسية في بناء الحضارة وحفظ القيم الإنسانية، فهي التي تسهم في تربية الأجيال، وتعليمهم، وقيادتهم نحو مستقبل أكثر إشراقًا. تحمل على عاتقها مسؤوليات متعددة، فهي الأم والمربية والعالمة وصاحبة القرار، فتؤدي أدوارًا جوهرية في مختلف جوانب الحياة. إن تمكين المرأة وتعزيز حضورها في المجتمع يشكل عنصراً أساسياً في تحقيق العدالة والتقدم. كل إنجاز تحققه المرأة ينعكس إيجابيًا على المجتمع بأسره، وكل خطوة تخطوها نحو تحقيق ذاتها تشكل خطوة نحو تطور الإنسانية بأكملها. إن تقدير إمكانات المرأة ودعم مشاركتها هو المفتاح لتشييد مستقبل يزخر بالازدهار ويحقق التوازن للجميع.
فإلى كل امرأة في هذا العالم، إلى الأم التي تزرع الحب في القلوب، وإلى المربية التي تنير العقول، وإلى العالمة التي تساهم في تطور المعرفة، وإلى القائدة التي تصنع القرارات، وإلى كل من تحمل على عاتقها مسؤولية بناء مجتمع أكثر عدالة وتقدمًا، كل عام وأنتِ رمزٌ للقوة والإلهام.
في يومكِ هذا، يُجدد العالم اعترافه بدوركِ العظيم وإسهاماتكِ التي لا تُحصى، فأنتِ الأساس الذي تُبنى عليه الحضارات، والنور الذي يشق طريق المستقبل. وإن ما تحقق من إنجازات هو ثمرة كفاحكِ وجهدكِ، وما يزال المستقبل يحمل آفاقًا جديدة تستحقينها بكل جدارة.
كل التقدير لروحكِ المثابرة، وعزيمتكِ التي لا تعرف الحدود، ووجودكِ الذي يضفي المعنى والجمال على الحياة. لكِ منا في كل مكان تحية فخر واعتزاز، وكل عام وأنتِ متألقة، ملهمة، وصانعة للتغيير.