اللغة العربية وإشكالية السيادة المعرفية في جامعاتنا
أ.د سلطان المعاني
10-03-2025 11:41 AM
تعتبر اللغة المكون الأول لعقل الأمة، وهي الحاضنة الحقيقية للهوية الفكرية والثقافية، والمعيار الأهم في تشكيل الوعي الجمعي للأفراد والجماعات. فمن خلالها تتبلور التصورات، وتُصاغ المفاهيم، وتتحدد أنماط التفكير، وهي في الوقت ذاته أداة الإبداع ووسيلة إنتاج المعرفة. ولا يمكن لأي أمة أن تستقل حضاريًا دون أن تستقل لغويًا، ولا يمكن لأي مجتمع أن يحقق نهضة علمية وفكرية دون أن تكون لغته الأم هي القاعدة التي ينطلق منها في البحث والتعليم والتواصل. ومع ذلك، فإن واقع اللغة العربية في الجامعات الأردنية، كما في غيرها من الجامعات العربية، يعكس أزمة عميقة ترتبط بتهميشها في البحث العلمي لصالح اللغة الإنجليزية، وهيمنة الأخيرة في التصنيفات العالمية، مما يفرض علينا مراجعة نقدية لهذه الظاهرة، وتحليل أبعادها من منظور معرفي وثقافي يرتبط بما يمكن تسميته بعقدة التابع في الفكر ما بعد الاستعماري.
تشكل الجامعات أحد أهم مراكز إنتاج المعرفة، وهي الفضاء الذي يتم فيه تكوين النخب الفكرية والعلمية، مما يجعل اللغة المستخدمة فيها مؤشرًا دقيقًا على مكانة اللغة الأم في البناء الحضاري لأي أمة. وفي الأردن، كما في أغلب البلدان العربية، أصبح النشر الأكاديمي باللغة الإنجليزية شرطًا أساسيًا للارتقاء في السلم الأكاديمي، وتحقيق الاعتراف البحثي عالميًا. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى سياسات التصنيفات العالمية التي تعتمد معايير تفضل الأبحاث المنشورة بالإنجليزية، متجاهلة بذلك القيمة العلمية للأبحاث المكتوبة بلغات أخرى. ونتيجة لذلك، بات الباحثون مضطرين إلى الكتابة بلغة أجنبية لضمان وصول أبحاثهم إلى جمهور أوسع، مما أدى إلى تهميش الإنتاج المعرفي باللغة العربية، وأفقدها قدرتها على التطور واللحاق بركب العلوم الحديثة.
إن هذا التوجه لا يخلو من تداعيات خطيرة، فمن ناحية، يؤدي إلى قلة المصادر المتاحة للطلاب والباحثين باللغة الأم، مما يجعل اكتساب المعرفة مرتبطًا بإتقان الإنجليزية، وهو ما يخلق فجوة معرفية بين الأكاديميين والمجتمع المحلي، حيث يصبح الوصول إلى العلوم الحديثة حكرًا على فئة محددة تجيد اللغة الأجنبية. ومن ناحية أخرى، فإن التهميش الممنهج للغة العربية في البحث العلمي يضعف من تطوير المصطلحات العلمية بها، ويجعلها عاجزة عن استيعاب المفاهيم الجديدة، مما يرسخ الفكرة الخاطئة القائلة بأن العربية غير قادرة على مواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي.
ولكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هنا هو: هل هيمنة الإنجليزية في البحث العلمي أمر محايد؟ هل يمكن اعتبار أن الإنجليزية أصبحت لغة العلم فقط بسبب تفوقها اللغوي، أم أن هناك عوامل أخرى تتعلق ببنية الهيمنة المعرفية؟ إن النظر إلى المسألة من منظور حيادي هو في حد ذاته تبسيط للواقع، فالأمر لا يتعلق فقط بالجانب اللغوي، بل يمتد إلى منظومة السيطرة الثقافية التي جعلت الإنجليزية تحتكر الخطاب العلمي، وأصبحت معيار التقدم والحداثة. فقد أظهرت دراسات علمية أن الأبحاث المنشورة باللغات غير الإنجليزية تحصل على عدد أقل من الاقتباسات، ليس لأنها أقل جودة، ولكن لأنها لا تندمج في الشبكة البحثية العالمية التي تسيطر عليها الإنجليزية. وهذا يعني أن التصنيفات العالمية لا تعكس بالضرورة جودة البحث العلمي، ولكنها تعكس مدى اندماجه في فضاء معين تتحكم فيه قوى معرفية محددة، وهو ما يجعل الباحث العربي في موقف غير متكافئ، حيث يكون مضطرًا للنشر بلغة غير لغته الأم لضمان الاعتراف الدولي بأعماله، مما يعمّق أزمة اللغة العربية في المجال الأكاديمي.
لا يمكن فهم هذه الظاهرة بمعزل عن تاريخ الهيمنة الثقافية والاستعمارية، فالتبعية اللغوية هي جزء من إرث استعماري طويل، حاول أن يفرض على المستعمرات السابقة أنماط تفكير تنظر إلى ثقافة المستعمِر بوصفها النموذج الأسمى الذي يجب الاحتذاء به. وهنا يمكننا استدعاء نظرية "عقدة التابع" التي تحدث عنها مفكرون في دراسات ما بعد الاستعمار مثل غاياتري سبيفاك وفرانز فانون، والتي تشير إلى أن التابع لا يستطيع الحديث بصوته الخاص إلا عبر اللغة التي فرضها عليه المستعمِر، مما يجعله محاصرًا داخل خطاب لا يعبر عن ذاته الحقيقية. وبهذا المنطق، فإن استمرار الجامعات العربية في فرض الإنجليزية كلغة رئيسة للنشر الأكاديمي ليس مجرد قرار إداري، وإنما هي امتداد لحالة استعمار معرفي تفرض على العقل العربي أن يفكر بأدوات غيره، وأن يعيد إنتاج المعرفة ضمن منظومة لا تعترف به إلا إذا استخدم مفاهيمها ولغتها.
إن الدفاع عن اللغة العربية في البحث العلمي موقف ثقافي، وضرورة استراتيجية لضمان استقلال الأمة معرفيًا. فالأمم التي نجحت في تحقيق استقلالها الحضاري لم تفعل ذلك من خلال تبني لغات الآخرين، وإنما من خلال تمكين لغاتها من استيعاب العلوم الحديثة، وإنتاج معارف جديدة بلغتها الخاصة. فاليابان، على سبيل المثال، لم تعتمد الإنجليزية في البحث العلمي، وطورت علومها بلغتها، وكذلك فعلت الصين وألمانيا وروسيا. وهذه الدول لم ترَ في لغتها حاجزًا يمنع التقدم، فجعلتها وسيلة لإنتاج نهضة معرفية متكاملة، في حين أن الدول التي استمرت في استخدام لغة المستعمر، كما هو الحال في بعض الدول الإفريقية، وجدت نفسها عاجزة عن تحقيق سيادة معرفية حقيقية.
إذا كان المطلوب هو رفع شأن اللغة العربية في البحث العلمي، فإن الأمر لا يقتصر على دعوات نظرية، وإنما يحتاج إلى سياسات واضحة تضمن تعزيز البحث باللغة الأم. ويكون ذلك من خلال إنشاء مجلات علمية محكمة ذات تصنيف دولي تصدر بالعربية، بحيث تكون مرجعية معترف بها عالميًا، إضافة إلى إدراج اللغة العربية في معايير التصنيف الجامعي، بحيث يتم احتساب الأبحاث المكتوبة بها ضمن مؤشرات التقييم. كما يجب العمل على تشجيع الباحثين على النشر ثنائي اللغة، بحيث يكون هناك نسخة عربية وإنجليزية للأبحاث، لضمان وصولها إلى جمهور واسع دون التضحية باللغة الأم. ومن المهم كذلك إطلاق مبادرات لترجمة الأبحاث العالمية إلى العربية، مما يعزز من ثراء المحتوى العلمي العربي، ويجعله متاحًا للطلاب والباحثين، إلى جانب تعزيز دور مجامع اللغة العربية في تطوير المصطلحات العلمية الحديثة، بحيث يمكن استخدامها في التدريس والبحث دون الحاجة إلى استعارة المصطلحات الأجنبية.
إن النهضة الحقيقية لأي أمة تبدأ من لغتها، لأن اللغة هي بنية فكرية تحدد كيفية فهم العالم والتفاعل معه. وإذا استمرت الجامعات العربية في تجاهل لغتها الأم، فإنها بذلك تعمق حالة التبعية المعرفية، وتفقد قدرتها على إنتاج معرفة مستقلة. يجب أن ندرك أن العلم لا يتقدم إلا حين يكون منبثقًا من ثقافة الأمة ولغتها، فالنهضة لا تُصنع بلغة مستعارة، والسيادة لا تتحقق إلا حين يكون للأمة القدرة على التفكير والإبداع بلغتها الخاصة. ومن هنا، فإن الدفاع عن اللغة العربية هو سعي من أجل الاستقلال الفكري والمعرفي، لأن الأمم القوية هي التي تصنع فكرها بلغتها، كما تصنع سلاحها بأيديها.