التوازن المضطرب في النظام الدولي
أ.د سلطان المعاني
23-03-2025 08:14 AM
تشهد العلاقات الدولية مرحلة من التحولات العميقة التي تعكس حالة من التوازن المضطرب، حيث تتداخل استراتيجيات الواقعية الدفاعية والواقعية الهجومية في سياقات متباينة، تفرض على الدول الكبرى إعادة صياغة أولوياتها بما يتناسب مع بيئة دولية تزداد تعقيداً. ولم يعد الاستقرار الدولي قائماً على مفاهيم تقليدية تعكس ثنائية قطبية واضحة أو هيمنة أحادية لا جدال فيها، فلقد بات النظام العالمي أشبه بمعادلة حركية مفتوحة على احتمالات متباينة، تتراوح بين احتواء الأزمات وتصعيدها وفقاً لمعادلات القوة والمصلحة. في قلب هذا المشهد، تتجلى تناقضات السياسة الدولية، حيث تمضي بعض الدول في مسارات دفاعية تحاول من خلالها الحفاظ على التوازن القائم وتجنب الانزلاق نحو صراعات مباشرة، بينما تعتمد دول أخرى نهجاً هجومياً يسعى إلى فرض واقع جديد يعيد تشكيل موازين القوى وفق تصورات تتجاوز الإطار التقليدي للردع والاستقرار. في ظل هذه التفاعلات، تتسع دوائر المنافسة على النفوذ، وتتداخل المصالح الاقتصادية والعسكرية والسيبرانية في صراع يدار بأدوات غير تقليدية، حيث تحل العقوبات الاقتصادية والتلاعب بالأسواق والهجمات السيبرانية محل المواجهات العسكرية المباشرة، لتعيد صياغة مفهوم القوة في العصر الحديث.
تبدو التفاهمات الدولية أكثر هشاشة من أي وقت مضى، حيث تتسم التحالفات بالمرونة والبراغماتية، متأرجحة بين التقارب والتباعد وفقاً للمصالح الآنية. وتتحرك القوى الكبرى بحذر بين ضبط التصعيد وتوسيعه، في معادلة تتطلب موازنة دقيقة بين الحفاظ على مكتسبات النفوذ وتجنب التكاليف غير المحسوبة. لم يعد الصراع يدور حول المواجهات المباشرة بقدر ما أصبح اختباراً لقدرة الدول على توظيف أدواتها الاستراتيجية بأقصى درجات الفاعلية، مستندة إلى سياسات تتيح لها هامشاً من المناورة يضمن لها البقاء ضمن لعبة التنافس دون أن تتحمل تبعات الصدام المباشر.
في هذا الإطار، لا يبدو أن العالم يسير نحو استقرار واضح المعالم، بل نحو حالة من إعادة التشكيل المستمرة التي تتخللها لحظات تهدئة مدفوعة بضرورات اقتصادية وسياسية، لكنها لا تلغي إمكانية التصعيد عند توفر الظروف الملائمة له. إن تكاليف المواجهة المباشرة تدفع الدول الكبرى إلى استكشاف آليات أكثر تطوراً في إدارة الصراع، لكن من دون أن تتخلى عن استعداداتها لخوض مواجهات أوسع إن دعت الحاجة. التوازن القائم ليس استقراراً بالمعنى التقليدي، بل هو حالة من الاضطراب المحكوم بضوابط مؤقتة، مرشحة للانفلات في أي لحظة، وفقاً لمسار الأحداث ومقدار التنازلات التي تقبل بها القوى المتنافسة.
هذا المشهد الراهن يعكس نظاماً عالمياً لا يزال في طور التشكل، حيث لم تحسم ملامحه النهائية بعد، مما يفرض على الفاعلين الدوليين تبني سياسات تقوم على المرونة والتكيف مع واقع متغير. إنّ المستقبل مفتوح على عدة سيناريوهات، لكن القاسم المشترك بينها هو أن النظام الدولي لن يعود إلى ما كان عليه في العقود الماضية، بل يتجه نحو نمط جديد من التفاعلات تحكمه معادلات غير مستقرة، تستند إلى مزيج من الردع والمواجهة، والتعاون والاحتواء، أو الصراع والتفاوض، في دورة مستمرة تعكس طبيعة المرحلة الراهنة بكل تناقضاتها وتحدياتها.
تأتي الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل كنموذجين يعكسان تفاعلات الواقعية السياسية في أكثر صورها وضوحاً، حيث تشكل سياساتهما الخارجية نموذجاً مركباً يجمع بين استراتيجيات دفاعية تسعى إلى تحصين النفوذ القائم، ونزعات هجومية تستهدف إعادة تشكيل موازين القوى وفقاً لمصالحهما الاستراتيجية. في بيئة دولية تتسم بالاضطراب وتغير التحالفات، تبدو كلتا الدولتين مدفوعتين برؤية سياسية تستند إلى إدراك عميق لديناميات القوة، وهو ما ينعكس في سياساتهما تجاه التحديات التي تواجههما على المستويين الإقليمي والدولي.