الثقافات المتصادمة ليست مجرد حالة عابرة أو احتكاك عارض بين جماعات تنتمي إلى خلفيات مختلفة، ولكنها تعبير عن توتر كامن في عمق النظام الرمزي الذي يحكم رؤية الإنسان للعالم، ولموقعه داخله، ولمن يُسمح له أن يُعرّف الآخر أو يُعيد تأطيره. التصادم هنا لا يعني بالضرورة الحرب أو العنف المباشر، فهو ذلك الفيض الصامت من سوء الفهم، ومن إقصاء اللغة، ومن إعادة إنتاج الذات في صورة الآخر، أو عبر مراياه المنحازة. فالثقافة تدخل التصادم كنسق وجودي، محمول على منظومة من القيم، والتمثيلات، والتاريخ المتراكم، والخطاب الذي يُنتج واقعه الرمزي في كل مرة يُعاد فيه الكلام. وعليه، فإن التصادم لا ينشأ من التعدد في حد ذاته، وإنما بقصدية فشل الاعتراف بهذا التعدد، ومن رغبة طرف في تصدير ذاته كنموذج عالمي، يُفترض في بقية الثقافات أن تحاكيه، أو تتكيّف معه، أو على الأقل ألا تعارضه علنًا. وما يبدو اختلافًا ثقافيًا في سطح الخطاب، يكشف عن عمق فلسفي وأخلاقي يُعيد ترتيب العلاقة بين القيم، والمعنى، والسلطة. لهذا لم يكن المشروع الاستشراقي، كما حلّله إدوارد سعيد، مشروعًا معرفيًا بريئًا، ولكنه مشروع يعيد تشكيل الشرق بوصفه مادة للتمثيل، لا ذاتًا لها صوت، أو موقعٌ لها في إنتاج الحقيقة. إنه تصادم ناعم، يبدأ من الفرضيات التي لا تُساءل، وينتهي في المعايير التي تُقاس بها الحضارات وفق معيار واحد.
في هذا السياق، يصبح الإعلام حقلًا مثاليًا لتجليات هذا التصادم، لأنه يصنع الواقع. حين تُقدَّم الثقافات الأخرى بوصفها "إشكالية"، أو "غامضة"، أو "غير عقلانية"، ويعيد الإعلام إنتاج هيمنة رمزية تُلبس المركزية صفة الحياد. فـ"المسلم" مثلًا، يُقدَّم غالبًا كرمز محمّل بميراث العنف أو الغرابة أو التهديد. وتُختزل الثقافات في رموزها، ثم تُدان بناءً على تلك الرموز، وتُحوَّل إلى مشاهد لا تُطلب منها سوى التفسير أو الدفاع، دون أن تُمنح مساحة للسؤال أو النقد.
لكن هذا التصادم لا يُفهم خارج البنية السياسية التي تعيد إنتاجه، من خلال السياسات التي تُشرعن الخوف من الآخر، وتُسنّ القوانين على مقاس الهوية المهيمنة. فلا يعود اللاجئ إنسانًا له حق الحياة، بل عبئًا ثقافيًا، ولا تعود ممارسة دينية شأناً خاصًا، لكنها تهديد للعلمانية، ولا تُفهم الخصوصية الحضارية كحق، بل كعائق أمام التقدم. وهنا، لا تنفصل الدولة عن الخطاب، وتُصبح ذراعًا له، تُجسّد من خلال القوانين ما يُبثّ في الأخبار، وما يُكرّس في البرامج التعليمية، وما يُعاد إنتاجه في الثقافة العامة.
وحين تصل هذه التوترات إلى الحقل التربوي، فإنها تزرع في الأذهان منذ الطفولة ما يُراد له أن يبدو طبيعيًا: أن هناك ثقافة مركزية، تُدرَّس، وتُقدَّم كنموذج، في حين تُهمَّش الثقافات الأخرى، أو تُعرض بوصفها تراثًا، أو مادة للفولكلور، أو إشكالًا في التعايش. وما لا يُقال هنا هو أن الهيمنة لا تُفرض بالقوة وإنما بالإخفاء، حين لا يُمثَّل الآخر إلا في هوامش النصوص، أو في الصور النمطية، أو في غياب تام يُبنى عليه المنهج من دون أن يشعر الطالب أن هناك فراغًا.
ولم تُخرِج التكنولوجيا بدورها العالم من التصادم، وأعادت ترتيبه بصيغة جديدة، تُخفي الهيمنة في صيغ برمجية، وفي خوارزميات تُحدّد ما يُشاهَد، وما يُخفى، وما يُمنَح فرصة الانتشار، وما يُقمع باسم "معايير المجتمع". لكنها معايير لا يُصرَّح بمن كتبها، ولا وبأي لغة صِيغَت، ولا لمن تخدم فعليًا. وفي هذا الفضاء الذي يبدو مفتوحًا، يتكرر منطق الإقصاء عبر التحكم في السرد، وفي الصوت، وفي الحضور.
في مثل هذا العالم، تصبح "الثقافات المتصادمة" أقل تعبيرًا عن الحروب، وأكثر عن الأشكال الرمزية للهيمنة، حيث لا يُقصى الآخر بالسلاح، فقط يُعاد تشكيله كموضوع للتمثيل. ويُقال عنه، لا لأنه عاجز عن التعبير، ولكن لأن صوته لا يُسمَع إلا إذا طابق الصورة المرسومة له سلفًا. هذا هو جوهر التصادم: ليس اختلافًا بين لغتين أو لباسين، إنه بين من يملك سلطة القول، ومن لا يُسمح له بالكلام إلا مترجمًا، مفلترًا، أو مُراقبًا.
وبين خطاب يدّعي التعدد، وواقعٍ لا يحتمل إلا نسخة واحدة من الاختلاف، تبقى الأسئلة الكبرى مفتوحة: هل نستطيع أن نُقيم التعدد على أرضية من التكافؤ؟ وهل يمكن لثقافة أن تُنصت قبل أن تحكم؟ وهل نملك الشجاعة، لأن نقول ما نحن عليه، ولا ننصت لما ليس نحن، ودون أن نُحوّله إلى صورة لأنفسنا؟ تلك هي البداية الحقيقية للخروج من التصادم، نحو فضاء مشترك لا يجوز أن يُعاد فيه إنتاج الهيمنة بأدوات جديدة، ولا بد أن يُفسَح فيه للاختلاف أن يكون، لا بوصفه تهديدًا، بل بوصفه شرطًا لحضور الذات والمعنى.