في سياق التفكيك النقدي لسردية "العالمية"، يتبدى وجه خفي من وجوه الكولونيالية الجديدة، حيث يُصاغ النموذج الغربي بوصفه الصورة الوحيدة المقبولة للوجود الإنساني، ويُقدَّم للآخر بوصفه حالة طبيعية لا تاريخية، نموذجًا كونياً بلا بدائل، يفرض شروطه المعرفية ويقصي أي تصور مغاير باعتباره محليًا أو تقليديًا، أي خارج التاريخ أو عاجزًا عن مواكبة التحديث. هنا يتحول "الكوني" إلى غطاء دلالي لـ"الغربي"، ويتحول "المحلي" إلى وصمة تُعلّق بكل ما هو متأخر أو غير قابل للتقدم، فيتشكل بذلك ثنائي وهمي وخطير، يُعطّل فرص تعدد النماذج والحداثات. وبهذا الصدد، فإن النقد الحضاري، عبر تفكيكه لهذه الثنائية، يُعيد طرح السؤال بوضوح: هل الحداثة طريق واحد وإملاء ثقافي منفرد، أم هي مسارات متنوعة ومتعددة؟ وهل يمكننا بالفعل تأسيس "كونية بديلة" لا تلغي الآخر، بل تحتضن تعدد النماذج وتحتفي بالتنوع وتعيد الاعتبار للخصوصيات الحضارية؟.
من هذا المنطلق، تبرز معركة "التبعية المعرفية" كواحدة من أهم محطات النقد الحضاري في مواجهة الكولونيالية الجديدة؛ إذ لا تزال المراكز المعرفية الكبرى من جامعات ومراكز أبحاث ومنظمات عالمية تحتكر تعريف ما يُعتبر "علمًا"، وتحدد شروط المشروعية لأي معرفة وفق نموذجها الحضاري، مُقصيةً بذلك المعارف البديلة من المشهد، والتي تُوصم على الفور بالمحلية، أو الدينية أو الأسطورية أو غير العلمية. يتقاطع هذا النقد بوضوح مع جهود مفكرين مثل إدوارد سعيد في نقده للخطاب الاستشراقي، وبوافينتورا دي سوزا سانتوس في مقاربته للتعددية المعرفية، وأنيبال كويجانو ووالتر منيولو في تفكيكهما لمفهوم "الاستعمار المعرفي" ، فهؤلاء جميعاً يعملون على تحرير المعرفة من مركزية الهيمنة الغربية، وإعادة الاعتبار لمعارف الشعوب الأصلية والمحلية والإسلامية واللاتينية والإفريقية بوصفها روافد أصيلة للخبرة الإنسانية وليست مجرّد معارف هامشية.
في السياق ذاته، يتجلى وجه آخر من وجوه النقد الحضاري عبر تفكيك الاستعمار الثقافي والتسليع الرمزي؛ إذ لم تعد الكولونيالية الجديدة تستند فقط إلى الهيمنة السياسية أو الاقتصادية المباشرة، بل تمتد أيضًا إلى مجالات الثقافة والترفيه والصورة والاستهلاك وأنماط الحياة، بحيث يتحول كل ما هو جوهري إلى سلعة أو علامة تجارية، وتصبح الهويات منتجًا ثقافيًا، وتُساق التقاليد بوصفها مجرد "إرث سياحي"، وتُختزل المعاني والقيم في أشكال استهلاكية تُسوَّق في سياق معولم. هنا يبرز النقد الحضاري ليطرح أسئلة جوهرية مثل: من يمتلك سلطة تعريف الجمال؟ من الذي يمنح المعاني الاجتماعية للنجاح؟ ومن الذي يُمارس سلطة التمثيل الثقافي للآخر؟ ولماذا تُسوَّق ثقافات الجنوب باعتبارها "غرائبية" أو "غامضة" أو "أصيلة"؟ هذه الأسئلة تكشف طبيعة السلطة الثقافية التي تُدار من خلالها منظومة التبعية الرمزية، وتفضح عمليات التسليع التي تُفرغ الثقافات من محتواها التاريخي، وتُعيد إنتاج الآخر بوصفه سلعة ثقافية في سوق عالمي يفرض شروطه من جديد.
بهذا المعنى، فإن تفكيك سردية "العالمية" يعيد الاعتبار للتعدد الثقافي والمعرفي، ويسعى نحو تأسيس كونية بديلة تقوم على المساواة واحترام التنوع، بدلًا من فرض نموذج حضاري أحادي يُقصي الآخر ويُعيد إنتاج التبعية في قوالب ثقافية ومعرفية جديدة.