facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




تحوّل جذري في بنية التعليم الحديثة


أ.د سلطان المعاني
04-04-2025 12:06 PM

يشهد التعليم في العقود الأخيرة تحوّلاً جوهريًا في فلسفاته وأساليبه، وهو تحوّل يتجاوز مظاهره التقنية والتكنولوجية، ليمسّ جوهر العلاقة بين المعلم والمتعلم، وبين المعرفة والتعلّم، وبين المدرسة والمجتمع. في هذا السياق، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة تعريف دور المعلم، لا بوصفه ناقلًا للمعلومات، بل باعتباره ميسّرًا للتعلم، موجّهًا للتفكير، وشريكًا في البناء المعرفي، وهي نظرة تعكس تصوّرات معاصرة لجودة التعليم في القرن الحادي والعشرين.

لقد تراجع النموذج التقليدي للمعلم الذي يعتلي منصة الصف ليُفرغ محتوى معرفيًا محددًا في أذهان طلاب سلبيين يتلقّون دون تفاعل. لم تعد المعرفة حكرًا على المعلم، ولم يعد الطالب يفتقر إلى وسائل الوصول إليها، فقد أصبح في وسعه، عبر ضغطة زر، أن يحصل على كمٍّ هائل من المعلومات. في هذا الإطار، يُعاد النظر جذريًا في موقع المعلم، حيث يُصبح مسؤولًا عن توجيه المتعلمين لاستهلاك المعرفة بشكل نقدي، وتحليلها، وربطها بسياقاتهم الذاتية والاجتماعية. يتطلب ذلك من المعلم أن يكون مفكرًا تربويًا، ومصممًا لتجارب تعلم ذات مغزى، وميسرًا لمسارات استكشاف ذاتي وتعاوني.

مصطلح "التيسير" لا يعني التقليل من قيمة دور المعلم أو اختزاله، بل على العكس، هو تعبير عن نقل هذا الدور إلى مستوى أعلى من التعقيد والعمق. فالمعلم الميسّر لا يُلقّن، بل يُوجّه، لا يفرض، بل يُحفّز، ولا يُقيّم فقط بالدرجات، بل يُرافق المتعلم في رحلته نحو الفهم والتمكين. يتضمن هذا الدور امتلاك مهارات حوارية متقدمة، والقدرة على الإنصات، وتوظيف استراتيجيات تدريس مرنة وشخصية تتناسب مع أنماط المتعلمين المختلفة واحتياجاتهم.

في ضوء هذا التحول، تتغير طبيعة الصف الدراسي من مكان جامد إلى بيئة تعلم تفاعلية. الصف المتمركز حول المعلم يتحول إلى مساحة تعلم تتمركز حول المتعلم، حيث يُشجّع على التعبير عن أفكاره، والمشاركة الفعالة، والمغامرة بالتجريب والخطأ. المعلم هنا لا يُعدّ قائدًا فقط، بل شريكًا في عملية إنتاج المعرفة. كما أن البيئة الصفية ينبغي أن تُصمّم لتعزز الفضول، والانخراط، والربط بين المفاهيم النظرية وحياة الطالب الواقعية.

إن التحوّل نحو دور المعلم الميسّر لا يمكن أن يحدث من فراغ، بل يتطلب بنية تحتية داعمة للتطوير المهني، تنطلق من فهم عميق لحاجات المعلمين، وتقدّم فرصًا مستمرة للتعلم والنمو. هذا لا يشمل التدريب التقليدي فقط، بل يشمل كذلك الانخراط في منصات التعليم الرقمي، والمشاركة في مجتمعات التعلم المهنية (PLNs)، والممارسة التأملية، والبحث الإجرائي. في هذا السياق، يتحوّل المعلم إلى "متعلّم مدى الحياة"، يُراجع ممارساته، ويطوّر أدواته، ويعيد تشكيل أدواره باستمرار.

رغم أن التكنولوجيا فرضت نفسها على البيئة التعليمية، إلا أن المعلم سيبقى المحور البشري الأهم في العملية التعليمية. غير أن التحدي يكمن في قدرة المعلمين على توظيف التكنولوجيا بصورة ذكية، تُثري التجربة التعليمية ولا تهمّش التفاعل الإنساني. استخدام الأدوات الرقمية ينبغي أن يصبّ في تعزيز التعلم الذاتي، وتخصيص المحتوى، ودعم أنماط التعلّم المختلفة، وليس أن يُستخدم كمجرد وسيلة عرض.

إن إعادة تصور دور المعلم كميسّر يستلزم أيضًا تحولًا في الثقافة التعليمية على مستوى السياسات والمجتمع. يتطلب ذلك إعادة النظر في معايير تقييم المعلمين، ومحتوى برامج إعدادهم، ونماذج الحوكمة المدرسية، وأدوار أولياء الأمور. فالمعلم الميسّر بحاجة إلى دعم مؤسسي، ومناخ مدرسي يقدّر التجريب والتجديد، ونُظم تعليمية تمنحه الثقة والاستقلالية الكافية لتطوير أدائه.

وبالمجمل، لا يُعدّ التحول نحو "المعلم الميسّر" مجرّد توجه عصري أو تكيّف مع متطلبات العصر الرقمي، بل هو إعادة إحياء لوظيفة التعليم في بناء الإنسان الحر، المفكر، القادر على الإسهام الفعّال في مجتمعه. إننا بحاجة إلى معلمين لا ينقلون المعرفة فحسب، بل يُضيئون دروبها، ويوسّعون آفاقها، ويُعيدون تشكيلها مع طلابهم في سياقات ذات معنى. وهذا هو جوهر التعليم الحقيقي، وأساس المجتمعات المتعلمة والمبدعة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :