facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




تنهض الأمم تنهض حين تقرر


أ.د سلطان المعاني
07-04-2025 12:21 PM

حين تُغلق الأبواب من الداخل، لا تنفع مفاتيح الخارج، فالأمم لا تنهض ما دامت عقول أبنائها مربوطة بخيوطٍ من الوهم، ولا تتقدّم ما دامت أجيالها ترضع من أثداء الخوف والتبعية، وتُلقّن منذ المهد أن العالم لا يُبنى إلا بيد غيرهم، وأن دورهم أن يتفرّجوا من بعيد، يردّدون حكايات الجدود كأنها عزاءٌ دائم، لا بصيص رجاء. والكارثة ليست فيما فاتهم من ركب الحضارة، ولكن في أنهم لم يَعُوا بعدُ أنهم لم يبدؤوا المسير أصلاً. فثقل الماضي حين يُحمَل دون بصيرة، يُصبح لعنة، لا نعمة؛ سجنًا ذهنيًّا تتوارثه العقول جيلاً بعد جيل، ويجري في الدم كما تجري الأمثال على الألسن، حتى لا يعود من السهل التمييز بين الحقيقة والأسطورة. هذا الماضي الذي نُغلق به أبواب الحاضر، ونصمّ به آذاننا عن نداءات العصر، لا يُقيم حضارة، بل يُقعد بها. وليس الخطأ في التراث، وإنما في اليد المرتعشة التي تقلب صفحاته دون فهم، وفي اللسان الذي يردّده دون فكر، وفي القلب الذي يُقدّسه دون نقد.

لقد صرنا نعيش في زمن يتقدّم من حولنا بمعدلات مذهلة، فيما نحن لا نزال نُحاكم الأفكار بمقاييس الأسلاف، ونحتمي بالنصوص بدل أن ننطلق منها. إننا نُلبِس التخلّف ثوب الورع، ونلوذ بالجمود بدعوى الحفاظ على الهوية، حتى صار الخوف من التغيير عقيدة، وصار السؤال خروجًا عن الجماعة، وكأن العقل خُلق ليطيع، لا ليفكّر، وليكرّر، لا ليبتكر.

أما التبعية، فليست في استيراد التقنية، بل في استيراد الرؤية، واستبطان النموذج الأجنبي على أنه المثال الأعلى، والنظر إلى الذات بعين الناقص العاجز الذي لا يرى في ثقافته إلا ما تجاوزه الغرب، ولا في تاريخه إلا لحظات الانحدار. وهكذا، نُعيد إنتاج الاستعمار بهزيمة الداخل. فكم من أمة طردت المحتل، لكنها أبقت لغته في وجدانها، ومفاهيمه في مؤسساتها، وشعوره بالفوقية في نظرتها إلى نفسها.

إن التحرّر يبدأ من الأفكار. ويُصاغ في في المدارس، وفي الكتب، وفي المختبرات، وفي المنابر والجامعات. فإذا لم نمتلك جرأة السؤال، وإذا لم نعد نقرأ العالم بعيوننا لا بعيونه، وإذا لم نمتلك مناهج تليق بالعصر، فلن نستحق مقام الفاعلية، بل سنظل نُدار، لا نُدير، ونُستعمل، لا نُنتج. فما نحتاجه اليوم أن نعيد فهم الحاضر. أن نخرج من أسر الأسطورة، ومن نَسَق الحنين المرضي، ومن حبال الطاعة الذهنية التي تُلغي الذات وتصنع القطيع. لا نريد أن نكون غرباء في زمن الحداثة، ولا أن نكون عبيدًا في سوق الأفكار، ولا أن نبقى أسرى خطابٍ يستمدّ شرعيته من تكرار ذاته. نريد أن نكون أنفسنا، لا صوراً باهتة للآخر، ولا أشباحاً تائهة في أروقة التاريخ.

النهضة ليست شعارًا، فهي شقّ طريق وسط الجبال، لا يقطعه إلا من امتلك عقلًا مُتحررًا، ونفسًا متشكّكة، وإرادة صلبة لا تُركن إلى المألوف. والذين يريدون التقدم من دون أن يُغيّروا ما بأنفسهم، كمن يطلب النور دون أن يُزيح الغبار عن المصباح.

فمن شاء أن ينهض، فليتعلّم كيف يُحرر فكره من الطاعة العمياء، وكيف يُعيد قراءة موروثه دون انكسار، وكيف يُكاشف ذاته قبل أن يُحاكم الزمان. وحين يكتشف الحبل الذي يلتفّ على عنقه، ويدرك أنه هو من شدّه بيديه، فذلك أول الطريق.

الأمم لا تنهض بالصدفة، ولا تستمر بالحظ. الأمم تنهض حين تقرر أن تفكّك بنيتها الذهنية قبل بنيتها المؤسسية، وحين تعيد بناء وعيها الذاتي من الداخل، لا حين تنتظر أن يُنقذها الخارج. وهذا القرار يحتاج إلى نُخبة فكرية شجاعة، لا تخشى الاتهام بالكفر بالثوابت، لأن الثوابت ذاتها يجب أن تُخضع للاختبار، وإلا تحولت إلى قيود جديدة تُضاف إلى حبال العقول.

التحرر يبدأ حين نكتشف أننا مقيدون.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :