facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




عقل الأمّة


أ.د سلطان المعاني
08-04-2025 09:55 AM

يواجه عقل الأمة العربية اليوم تحديًا جوهريًا يتمثل في اختلال التوازن بين ثوابته التاريخية ومنجزاته المعاصرة. تسيطر النزعة نحو استعادة الماضي في الكثير من الخطابات الثقافية والفكرية، حيث يُنظر إلى التراث بوصفه نموذجًا نهائيًا يُستدعى عند كل أزمة، دون أن يكون ذلك دافعًا حقيقيًا نحو إعادة إنتاج المعرفة وتطويرها بما يتناسب مع متطلبات العصر. هذه النظرة لا تمنح الأمة فرصة لاستعادة دورها الحضاري بقدر ما تجعلها أسيرة لفكرة الإنجاز المكتمل، بدل أن يكون التاريخ حافزًا لإبداع جديد.

غياب المشروع النهضوي الموحد يعكس مشكلة أعمق، حيث تبرز محاولات متفرقة هنا وهناك، لكنها تفتقر إلى رؤية تجمع بين الهوية والتقدم، وتبني تصورًا مستقبليًا يرتكز على تكامل اقتصادي وعلمي وثقافي. دون هذا الإطار الشامل، تظل الجهود النهضوية محكومة بحدودها الضيقة، غير قادرة على إحداث تحول جذري في العقل الجمعي للأمة، مما يجعلها تدور في حلقات من الإصلاحات الجزئية التي لا تصل إلى عمق المشكلة.

التعامل مع الحداثة يمر أحيانًا عبر منظور انتقائي، حيث يُنظر إلى التكنولوجيا والتقدم العلمي بوصفهما مظاهر مستوردة، بدل أن يكونا جزءًا من مشروع داخلي ينطلق من احتياجات المجتمعات العربية ورؤاها الخاصة. هذا الفصل بين التحديث والإبداع الذاتي يجعل عملية التطور أشبه بالتكيف السلبي بدل أن تكون استجابة نابعة من عقل يملك زمام المبادرة. حين لا تكون التكنولوجيا جزءًا من ثقافة إنتاجية، فإنها تبقى مجرد أدوات تُستخدم دون أن تتحول إلى رافعة لنهضة فكرية وعلمية حقيقية.

الأزمات السياسية والاقتصادية تضيف بُعدًا آخر إلى هذه الإشكالية، حيث يعرقل عدم الاستقرار بناء منظومة فكرية وتنموية متكاملة. في ظل التحديات المستمرة، تصبح الأولويات قصيرة المدى، ويفقد العقل العربي القدرة على التخطيط الاستراتيجي الذي يتجاوز اللحظة الراهنة نحو آفاق أوسع. حين يغيب الاستقرار، يتراجع الاستثمار في المعرفة والتعليم، ويضعف الحافز للإنتاج الثقافي والعلمي، مما يزيد من الفجوة بين الأمة ومنجزات العصر.

هذا الاختلال لا يعني استحالة تجاوز الأزمة، لكنه يتطلب إعادة النظر في العلاقة بين الثوابت والمنجزات، بحيث لا يكون الماضي عبئًا يمنع الحركة، ولا تكون الحداثة قفزًا في الفراغ دون جذور. استعادة العقل المنتج لا تبدأ من الانقطاع عن التراث أو الانبهار المطلق بالآخر، بل من استيعاب التجربة التاريخية والانطلاق منها لصياغة رؤية جديدة، توازن بين الانتماء والتجديد، وتؤسس لنهضة تستمد مشروعيتها من داخل الأمة نفسها.

استعادة عقل عربي متزن ممكنة، لكنها تتطلب مقاربة جديدة تعيد النظر في العلاقة بين الثوابت والتحديث، بحيث لا يكون الماضي عبئًا ولا تكون الحداثة تكرارًا لنماذج خارجية. يبدأ ذلك بإعادة قراءة التراث بوعي نقدي، حيث لا يُنظر إليه كمجموعة من النصوص الجامدة، بل كمصدر لإلهام التجديد والإبداع. العلماء المسلمون في العصور الذهبية لم يكتفوا بحفظ المعارف، بل تفاعلوا معها وأضافوا إليها، مما جعل حضارتهم منبعًا للفكر والعلم، وهي الروح التي تحتاج الأمة اليوم إلى استعادتها.

دون إنتاج معرفي حقيقي، يبقى العقل تابعًا وليس صانعًا للتحولات، لذلك يصبح تعزيز البحث العلمي والصناعة ضرورة لا يمكن تجاوزها. لا يكفي استيراد التكنولوجيا أو الاستفادة منها، بل يجب أن تكون هناك قدرة على تطويرها وإنتاجها وفق احتياجات المجتمعات العربية. الاستثمار في العقول، ودعم الابتكار، وبناء بيئات بحثية حقيقية، هي خطوات تضمن انتقال الأمة من موقع المستهلك إلى موقع المنتج، حيث يصبح العلم جزءًا من ثقافة المجتمع وليس مجرد ترف أكاديمي معزول عن الواقع.

وجود مشروع نهضوي مشترك يمثل ركيزة أساسية في استعادة الوعي الحضاري، بحيث يشمل محاور متكاملة تمتد من التعليم إلى الاقتصاد والتكنولوجيا، دون أن يكون ذلك على حساب الهوية الثقافية. حين يكون هناك توازن بين التنمية والهوية، يصبح التطوير عملية طبيعية تنبع من الداخل، لا مجرد استنساخ لتجارب أخرى. بناء نهضة عربية لا يمكن أن يكون مشروعًا فرديًا لدولة أو مؤسسة، بل يحتاج إلى رؤية جماعية تتجاوز الحدود السياسية نحو تكامل فكري وتنموي يحقق تأثيرًا حقيقيًا في المشهد العالمي.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :