facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الحكومة المنتجة: مستقبل الإدارة العامة


د. صالح سليم الحموري
08-04-2025 07:59 PM

هل يمكن أن تتحول الحكومات من جهات مستهلكة للموارد إلى مؤسسات منتجة تحقق فائضًا ماليًا؟ سؤال لم يعد نظريًا كما كان في الماضي، بل صار واقعًا ملموسًا لدى بعض الدول التي نجحت في تحقيق معادلة تبدو صعبة: حكومة تحقق إيرادات تفوق نفقاتها، دون أن ترهق كاهل المواطن بالضرائب، بل من خلال نماذج عمل مبتكرة واستثمارات ذكية حوّلت المؤسسات الحكومية إلى محركات فعّالة للقيمة الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.

في العديد من التجارب العالمية، بدأ النموذج التقليدي للإدارة الحكومية، القائم على تقديم الخدمات مقابل الإنفاق، يتراجع أمام نماذج أكثر رشاقة ومرونة وديناميكية، لا تكتفي بالتنبؤ بالتحديات، بل تستشرفها، وتستعد لها، بل وتحوّلها إلى فرص عبر "الابتكار"، الذي يُعد السر الحقيقي وراء نجاح الحكومات الحديثة. لقد أدركت الحكومات الرائدة أن بإمكانها إعادة التفكير في طرق تقديم خدماتها، ليس فقط بهدف تقليل الإنفاق، بل لتحقيق دخل فعلي يُعزز من قدرتها على النمو الذاتي والاستدامة المالية. وهكذا، تحولت العديد من الخدمات إلى منصات مدفوعة القيمة، بدلًا من أن تبقى خدمات مجانية بالكامل، مما ساهم في دعم الميزانيات العامة دون تحميلها أعباء إضافية.

وفي سياق آخر، تُظهر الشراكات الاستراتيجية بين القطاعين العام والخاص نموذجًا ناجحًا لتحقيق التوازن بين تقليل الأعباء المالية المباشرة وخلق مصادر دخل مستدامة. برامج مثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)، كما هو مطبق في سنغافورة والمملكة المتحدة، أصبحت مثالًا يحتذى في تحويل مشاريع البنية التحتية والطاقة والنقل إلى أصول إنتاجية تعود بعوائد منتظمة على الحكومة، مع توزيع متوازن للمخاطر والعوائد بين الطرفين.

ولا يمكن إغفال الإمكانيات الهائلة التي تمتلكها الحكومات من خلال أصولها العامة. فهناك أراضٍ ومبانٍ ومرافق ضخمة غالبًا ما تكون غير مستغلة بالشكل الأمثل. سنغافورة تقدم نموذجًا رائدًا في هذا المجال عبر هيئة "تيماسيك القابضة" (Temasek)، التي تدير استثمارات الدولة وتحقق من خلالها عوائد ضخمة تعزز الميزانية الوطنية عامًا بعد عام.

وتلخص تيماسيك رؤيتها في عبارة ملهمة: "نحن مستثمرون من جيل إلى جيل، نسعى لإحداث فرق واضعين المستقبل نصب أعيننا." وفي النرويج، نجح الصندوق السيادي، الذي يدير عائدات النفط، في تحقيق فائض يُعاد ضخه لتعزيز الاقتصاد وضمان مستقبل مالي مستدام للأجيال القادمة، ليصبح بذلك نموذجًا عالميًا في الإدارة الرشيدة للموارد وتحقيق الاستدامة المالية.

أما التحول الرقمي، فقد تجاوز كونه مجرد وسيلة لتحسين الخدمات ليصبح قناة استراتيجية رئيسية لتوليد الإيرادات. فالحكومات التي اعتمدت على منصات الدفع الإلكتروني، والخدمات الذكية المدفوعة، والاشتراكات الرقمية، نجحت في تنويع مصادر دخلها وتحقيق كفاءة مالية ملحوظة. وتبرز تجربة إستونيا في هذا المجال بوصفها نموذجًا ملهمًا، حيث تقدم معظم الخدمات الحكومية عبر منصات رقمية متطورة، مما خفض التكاليف التشغيلية وزاد من كفاءة التحصيل المالي. وكذلك الإمارات التي تبنّت نهج تصفير البيروقراطية في العمليات والخدمات الحكومية، فتمكنت من تبسيط الإجراءات وتعزيز سرعة الإنجاز، مما أسهم في رفع كفاءة الخدمات وتحقيق قيمة اقتصادية مضافة تعزز من الاستدامة المالية للحكومة.

النماذج الناجحة متعددة. فالنرويج تعتمد على صندوق سيادي تجاوزت قيمته التريليون دولار أمريكي لدعم الخدمات الحكومية وضمان استقرار الاقتصاد في مواجهة التقلبات العالمية. وسنغافورة، بفضل إدارتها الذكية واستثماراتها الاستراتيجية، نجحت في تحويل الحكومة إلى مؤسسة منتجة تحقق فائضًا في الإيرادات. وفي منطقتنا، تبرز دبي كنموذج ملهم لتحول الحكومة إلى كيان اقتصادي رائد، مستفيد من اقتصاد الخدمات والأعمال الدولية، والرسوم والعوائد السياحية.

إن مستقبل الإدارة الحكومية يتجه نحو آفاق أرحب؛ حكومات لا تكتفي بتقديم الخدمات، بل تتحول إلى مؤسسات اقتصادية تضيف قيمة مستدامة، وتنافس القطاع الخاص في مجالات الابتكار والربحية. تحقيق فائض مالي ليس على حساب العدالة الاجتماعية، بل هو تأكيد على دور الحكومة كمحرك للنمو، وحاضنة للابتكار، وركيزة رئيسية لرفاه المجتمع واستدامته. الحكومات التي تستثمر في طاقات موظفيها، وتعزز أدواتها الرقمية، وتدير أصولها بكفاءة، ستتصدر السباق نحو "التميز المؤسسي والاستدامة المالية".

ويبقى السؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم: كيف يمكن لحكومتنا أن تتحرر من قيد الاعتماد على المساعدات، وتتحول إلى حكومة منتجة تحقق فائضًا ماليًا يُعاد استثماره في رفاه المجتمع، ويصنع مستقبلًا أكثر ازدهارًا واستدامة؟.

حكومات المستقبل لن تقتصر أدوارها على تقديم الخدمات العامة، بل ستتحول إلى مؤسسات منتجة تضيف قيمة اقتصادية مستدامة، وتنافس القطاع الخاص في ميادين الابتكار والربحية. إن تحقيق فائض مالي لا يعني التخلي عن المسؤولية الاجتماعية، بل على العكس تمامًا، فهو تجسيد لإعادة تعريف دور الحكومة باعتبارها محركًا للنمو، وحاضنة للابتكار، وركيزة أساسية في تعزيز رفاه المجتمع واستدامته.

الحكومات التي تستثمر في قدرات موظفيها، وتطور أدواتها الرقمية، وتدير أصولها الوطنية بذكاء وفعالية، ستكون في طليعة السباق العالمي نحو الاستدامة المالية والتميز المؤسسي.

ويبقى السؤال الذي يستحق التأمل: كيف يمكن لحكومتنا اليوم أن تتحرر من قيد الاعتماد على المساعدات، وتتحول إلى حكومة منتجة تحقق فائضًا ماليًا يُعاد استثماره في تعزيز رفاه المجتمع، وبناء مستقبل أكثر ازدهارًا واستدامة؟.

*صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :