لنكتشف مَنْ نكون بعد أن كنّا
أ.د سلطان المعاني
09-04-2025 09:19 AM
لستُ أدري أيُّ ريحٍ تلك التي تدفع بالروح نحو حافة الورقة، كأن ثمة احتراقًا داخليًا لا يُطفأ إلا بالحبر، كأن المعنى لا يرضى أن يظل حبيس الصدر، فيفيض، كحركةٍ هادئة أو ذات ضجيج في جوف الصمت. قلم من البوح أو إزميل، وربما شيء أعمق، وأقدم، شيءٌ تشكّل بعد اللغة مقدساً أو طارئاً على قارعة الكلام، يسيل من الفكرة حين تنضج حد الوجع.ليس ثمة عنوان نُعنونه بهذا الفعل، ولا توقيت نرتّبه له، هو حدث بلا دعوة، كأنه انبثاق أو فجرٌ يُولد بلا استئذان. نجهل من أين أتى، لكنه ما إن يحضر، حتى يعمّ. كل اللحظات تصير مهيأة، وكل السكون يصبح لغةً تنتظر أن يُكشف عنها الغطاء. وما الورقة إلا امتدادٌ لداخلٍ مزدحم، لا يعرف كيف يهدأ.
لمن نُسلّم هذا الذي نخطه؟ من ذا الذي يقف على الطرف الآخر من هذا النهر؟ لعله وجود نحتمل أن يستقبل، نحتمل أن يُصاب بعدوى الفكرة، أو أن يتوهج بها، أن يرى ما لم يكن يراه، أو يُؤلّف بين شتات نفسه بوهج عبارة. أحيانًا نكتب كي نُلامس الغريب، وأحيانًا كي نُلامس الغريب فينا.
ثمة لحظات يُغلق فيها العالم أبوابه، يُدير فيها الوجود ظهره، فلا يبقى سوى صدى الداخل، وهو صدى لا يُسكنه إلا التشكّل، لا يُطيقه إلا التجلّي. ثمّة ثقل في الكتمان، لا تُخفّفه إلا الكتابة، بوصفها تفكيكًا، وباعتبارها إعلانًا، وتطهيرًا. الكتابة مرآة نُشرّح بها صمتنا، قبل أن تكون إعلاناً موجهاً
اللغة، حين تتجرّد من وظيفتها، تصبح معراجًا. كل جملةٍ صادقة تجربة. كل عبارة تُكتب على شفير الألم انبعاث. وما يُخطُّ ليس لأحد، لكنه إذا ما لامس أحدهم، صار له. الكلمات تُقال لكي تُقيم، لكي تزرع في الآخر سؤالًا، ارتباكًا، أو حتى راحة لم يكن يعرف أنه يفتقدها.
وهكذا، في لحظةٍ ما، في فجوةٍ بين اليقظة والنوم، في قلقٍ لا نعرف سببه، أو في فتورٍ ممتد، نجد أنفسنا أمام بياضٍ لا يُطاق. وتلك اللحظة، بقدر ما تبدو عابرة، تحمل كل ثقل الوجود. هي اللحظة التي لا يمكن تأجيلها، لا يمكن كتمها، لأنها لحظة انكشاف، لحظة عبور من الذات إلى ما بعد الذات. وما يُكتب ليس شيئًا سوى هذا العبور. فلا مكان يُحتكر له هذا الفيض. لا غرفة، لا طاولة، لا ضوء خافت ولا نافذة تطل على البحر. الكتابة لا تأبه للجغرافيا، لأنها فعلٌ داخليّ، لا تقيم في موضع، إنها حالة. ربما يأتيها الطيف في زحام المدينة، وربما تُولد في خلوةٍ طويلة على حافة جبل، وقد تظهر في لحظةٍ عابرة وسط الضجيج حين يغدو الخارج باهتًا ولا يبقى إلا الداخل نابضًا.
أحيانًا يكون المكان مجرد صدى لما في النفس؛ المقاهي، والأروقة، زوايا البيوت القديمة، كلها محطات لاحتمال التجلّي، لا أكثر. فالحرف لا يحتاج إلا إلى قلبٍ مُضطرم، وإلى وعيٍ يوشك أن ينفجر، وإلى روحٍ اكتظّت بما لا يُقال حتى لم يعد فيها متسع إلا للورق. حتى السجن، ذلك الموضع الأبكم، قد يتحوّل إلى محراب كتابة، لأن الإنسان حين يُسلب منه كل شيء، لا يبقى له سوى لغته كآخر مقاومة. كما في المكان، فلا وقت تُحاكم فيه الكتابة؛ لا موعد واضح، لا فجراً ولا مساءً، بل فجوة، شرخٌ صغير يتسلّل منه النور، أو لنقل: تتسلّل منه العبارة. كثيرٌ من النصوص وُلدت في لحظات لا يُتوقّع منها شيء: بين خطوتين، بين دمعتين، بين حلمٍ ويقظة، أو حين يُكسر الداخل بصمتٍ لا يسمعه أحد.
الكتابة لحظة امتلاء مفاجئ. هي عاصفة، لكنها تمرّ، وعلى الكاتب أن يكون يقظًا، ليفتح لها النوافذ والأبواب. إنها تأتيك كحالةٍ غامضة، كأنك في صلاة لا تدري أنك بدأتَها.
والمفارقة أن الزمن يتوقف حين نكتب، ولعله يتكسّر، أو يتحوّل إلى مادة سائلة لا وزن لها. نكتب في اللحظة، لكننا لا نكتب عنها. نُخلّد ما يتفلت، نُبطئ ما لا يمكن الإمساك به، ونحاول أن نُثبّت الإحساس على الورق كما يُثبّت الضوء في صورة. وحين تنتهي الجملة، لا نكون نحن أنفسنا. شيءٌ تغيّر، وإن لم يُرَ. وربما لذلك نعود إلى الكتابة كل مرة: لنكتشف من نكون بعد أن كنّا.