السر غير المكتوب لنجاح المؤسسات
د. صالح سليم الحموري
10-04-2025 12:43 PM
في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها بيئات العمل الحديثة، لم يعد كافيًا أن تنظّم العلاقة بين الموظف والمؤسسة بعقد قانوني يُحدد المهام والواجبات. هناك مستوى أعمق من تلك العلاقة، مستوى غير مكتوب لكنه محسوس في كل تفاصيل التفاعل اليومي داخل بيئة العمل، يُعرف باتفاق الاحترام المتبادل او "العقد النفسي".
اتفاق الاحترام المتبادل هو ذلك الاتفاق الضمني بين المؤسسة وموظفيها، وهو ليس وثيقة رسمية، بل مشاعر وتوقعات متبادلة تتمحور حول الاحترام، العدالة، التقدير، الأمان، والنمو المهني. وعلى عكس الاتفاقات الرسمية الجامدة، فإن هذا الاتفاق حساس، ينبض بالحياة مع كل موقف يُظهر التقدير أو يُغفله، ومع كل قرار يُشعر الموظف بأنه شريك في المسار أو يُقصيه عنه.
هذا الاتفاق هو ما يمنح الموظف شعورًا بالانتماء الحقيقي، ويجعل المؤسسة أكثر من مجرد جهة عمل؛ تصبح بيئة يختار الفرد أن يلتزم بها بكل طاقته ويساهم في تطويرها من قلبه. لكنه في المقابل، مهدد بالتآكل حين لا تُلبى التوقعات، أو عندما يُهمل التقدير، أو تُتخذ القرارات دون إشراك الموظفين في صياغتها.
لقد شهدنا في السنوات الأخيرة ظواهر عديدة تؤشر إلى اهتزاز هذا الاتفاق داخل المؤسسات. مظاهر مثل "الاستقالة الصامتة"، حيث يؤدي الموظف الحد الأدنى من المهام دون شغف أو انتماء، وارتفاع معدلات التسرب الوظيفي، وتراجع روح المبادرة والإبداع.
هذه ليست فقط مؤشرات على غياب الحوافز المادية، بل دلائل واضحة على تراجع الثقة والشعور بقيمة الجهد المبذول.
ومن أسباب ذلك التحولات الجوهرية في طبيعة العمل، خاصة مع صعود العمل الهجين، وتسارع الرقمنة، واعتماد أدوات التقييم والرقابة التي كثيرًا ما تُشعر الموظفين بأنهم مجرد أرقام في أنظمة صماء، تُعاملهم ببرود يقتل روح العلاقة الإنسانية.
يُضاف إلى ذلك غياب الشفافية، حيث تُتخذ القرارات المصيرية دون إشراك حقيقي للموظفين، مما يعزز شعور الإقصاء ويزرع الشكوك حول نوايا المؤسسة.
وهنا يظهر دور القيادة بأوضح صوره. فالقائد هو التجسيد العملي لثقافة المؤسسة، وهو حارس اتفاق الاحترام المتبادل أو من يهدمه. القادة الذين يجسدون القيم النبيلة، ويستمعون باهتمام، ويقدّرون مساهمات الجميع، يزرعون الثقة المتجددة ويعيدون بناء هذا الاتفاق يومًا بعد يوم. أما القادة الذين يختبئون خلف التعليمات الجامدة والأوامر الأحادية، فإنهم يُطفئون شرارة الانتماء، ويختزلون دور الموظف إلى منفذ صامت لا يملك من أمره شيئًا.
إعادة بناء اتفاق الاحترام المتبادل ليست مهمة حصرية لإدارة الموارد البشرية، بل مسؤولية ثقافية شاملة تتطلب وعيًا مؤسسيًا عميقًا. تبدأ بالاعتراف بوجود فجوة تحتاج إلى ردم، وتمضي في إعادة النظر بأساليب التواصل، وممارسات التقدير، وعدالة الفرص، وتصل إلى تمكين الموظفين من اتخاذ القرار وتحفيزهم على المبادرة.
هنا تلعب الثقافة المؤسسية دور الحاضنة الحقيقية لهذا الاتفاق. الثقافة التي تحتضن التجريب المسؤول، وتشجع على المبادرة، وتسامح الأخطاء باعتبارها جزءًا من رحلة التعلم، تزرع ولاءً حقيقيًا لا تهزّه العواصف. أما الثقافة التي تفرض الصمت وتكافئ الانصياع الأعمى، فإنها تخلق بيئة طاردة مهما زيّنتها الحوافز الشكلية.
نحن بحاجة إلى ثقافة مؤسسية تُعيد للموظف إنسانيته، وتمنحه شعورًا بأن صوته مسموع، وجهده مقدّر. الموظف لا يبحث عن الكمال، بل عن بيئة يُحترم فيها كإنسان، ويُقدّر فيها كصاحب قيمة.
إن اتفاق الاحترام المتبادل، وإن كان غير مكتوب، إلا أنه يُجدَّد يوميًا… مع كل قرار يُتخذ، وكل حوار يُدار، وكل موقف يُظهر مدى التزام المؤسسة تجاه موظفيها. والمؤسسات التي تدرك هذه الحقيقة وتعمل على صيانة هذا الاتفاق باستمرار، لا تكسب فقط ولاء موظفيها، بل تحصّن نفسها ضد التآكل الداخلي، وتُطلق طاقات بشرية يصعب حصرها في تقارير أداء، لكنها تصنع الفارق الحقيقي في مسيرة النجاح.
ففي النهاية، ليست الأنظمة وحدها من تحفظ المؤسسات، بل العلاقة التي تُبنى بين الإنسان والمكان الذي ينتمي إليه. وإذا أُهمل هذا الاتفاق، فإن النتائج ستصرخ، حتى لو كان صراخها في صمت.