الأردن أول الحرف ونداء البدايات
أ.د سلطان المعاني
11-04-2025 06:18 PM
الأردن، الوطن الذي يُستحضر في العقل والوجدان كلما همس التاريخ، وكلما نطق الحجر قبل البشر، وكلما أطلّ النور من نافذة الأزل. هو الأرض التي صاغت ملامح أول حضارةٍ، حيث رأت عيون الشمس دفءَ البدايات، وكتب الإنسان أولى حروف انتمائه. هنا، في المدى المجبول بالتراب والعزّة، ولد الحرف العربي من رحم الحاجة إلى التعبير، وتحوّل الصمت إلى بيان، والصخر إلى نقش، والظلّ إلى آيةٍ تُقرأ في سرائر الزمن.
كان الأردن العنوان الأول في سجل البشرية، وصدرًا من صدور الخلود، وحاضنًا أوليًّا لوجدان الإنسان، حين بدأت الروح تبحث عن مأوى واللغة عن مرآة. على أديمه مشت أقدام الأنبياء، ونزلت الرحمة من علياء النبوة، واستظلّت شجرةُ الوحي بأغصان الزيتون والرمان. هو الأردن الذي لا يكتفي بالحضور، بل يُملي شروطه على التاريخ، ويعيد تشكيل الذاكرة الجمعية للأمة، بما احتضنه من رسالات وسماوات ودموع شهداء لم تذهب عبثًا.
هنا جبارُ الخواطر، الذي يُعيد لمن فقد سنده سندًا، ويغسل بالحجر المبتلّ دمعة المقهور، ويزرع الرجاء في قلب من ظنّ أنه قد أُغلقت في وجهه الأبواب. كم من مستجيرٍ طرق بابه، فوجده مأوى لا يسأل، ولا يتبرم، بل يفتح ذراعيه كالأب الذي لا يُغلق بابًا في وجه الابن وإن أخطأ. هو الوطن الذي حين تشتدُّ الأنواء، يظلّ سقفًا للجميع، لا يفرّق بين نَسَبٍ ولا يقدّم هوية على أخرى، لأنه اختار أن يكون أوفى من الورق، وأصدق من الجوازات، وأسمى من التفرقة.
الأردن كينونة تُستشعر في طبقات الهواء، في صوت الأمهات حين يدعين لأولادهنّ على الخطوط الأمامية، في همس الفلاح وهو يبذر حقلًا يعلم أنه قد لا يحصده، ولكنه يفعل لأنه ابن الأرض. هو الأردن الذي ارتوت أرضه بدم الصحابة، الذين جاؤوا يحملون رايات الفتح، للرسالة، للنور الذي لا ينطفئ. في مؤتة، وفي اليرموك، وفي كل نقطة دمٍ سُكبت، توقّع الزمن على صكّ الكرامة أن هذه الأرض لا تُخذل.
هو الأردن، الوطن العالي بالقيم التي يحملها أهله، وبقدرته العجيبة على الصبر دون أن يتذمر، وعلى الانفتاح دون أن يذوب، وعلى الدفاع عن مبادئه دون أن يتحوّل إلى جلّاد. هو الشعب الذي إذا جاع، صبر، وإذا انْتُقِد، تسامى، وإذا واجهته ضُغوط العربي وذوي القربى، أبدع، وإذا استُهدف، كان في مقدّمة الركب. شعبٌ جبلته الصخرية لم تُثنِه عن الرقة، ولا قسوة التاريخ منعت عنه الحنان، فقد صنع منها العزّة، والنبل لا يُشترى ولا يباع.
لقد عرف الأردني كيف يزرع دون أن يملك، وكيف يحرس دون أن يُطلب، وكيف يبني دون أن ينتظر امتنانًا. وهنا يكمن السرُّ الذي لا يفسّره الدارسون، ولا يلتقطه الرحالة، ولا تكتبه الكاميرات. إنه سرّ الانتماء الهادئ، الانتماء الذي لا يحتاج إلى شعارات، لأنه يفيض من العين قبل اللسان، ومن العرق قبل القصيدة.
فالأردن، في جوهره، هو ما نعرفه عنه، وما لا نعرفه بعد، وما لا نستطيع أن نكتبه إلا حين نعيشه، لأن الكلمات مهما سمت، تظلّ قاصرة عن الإحاطة بطينه، وحنينه، وصمته الذي يقول كل شيء. إنه الوطن الذي لا يساوم، لأنه قرر منذ البداية أن يكون على حافة الضوء، في منطقة تتداخل فيها النبوءات مع العطش، والسكينة مع القلق، لكنه ظلّ رغم كل شيء، شامخًا، ثابتًا، لا تحنيه ريح، ولا تسرقه موجة.
ذلك هو الأردن... لا تكتبه الأقلام، بل يكتبه التاريخ حين يريد أن يتجمّل.