facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الوطن بين صدق النيات والحكمة


أ.د سلطان المعاني
14-04-2025 11:56 AM

في لحظات التوتر المجتمعي، حين يخرج البعض إلى الشوارع مدفوعين بألمٍ أو قلقٍ أو إحساسٍ بالخذلان، وتستعد الدولة، عبر أجهزتها، لضبط إيقاع المشهد حفاظًا على الاستقرار، ينشأ سؤالٌ جادّ: من يملك الحقيقة؟ أهو المحتج الغاضب الذي يرى أنه صادق في ألمه ومطالبه؟ أم هي الدولة التي تعتبر أن الحفاظ على النظام العام مقدّم على كل صراخٍ في العتمة؟ وبين هذين الصوتين، المتشابكين ظاهريًا، هناك صوت ثالث لا يرتفع بسهولة، لكنه وحده القادر على تجسيد التوازن: صوت الحكمة.

الحكمة، في مثل هذه السياقات، ليست صمتًا ولا حيادًا، بل هي القيمة التي تضع كل شيء في مكانه الصحيح: تعترف بصدق النوايا، لكنها لا تسمح بانفلاتها. تنصت إلى الغضب، لكنها لا تمنحه شرعيةً إن خرج عن سياق الدولة. تتفهم من يحتجّ، لكنها تحذّر من أولئك الذين يركبون الغضب لغايات التخريب أو الزعزعة. إنها الوقوف في المساحة الصعبة بين الانفعال والانتماء، بين التعبير عن الرأي والانجرار إلى الهاوية.

الصدق، في مثل هذه اللحظات، قد يكون محفّزًا للخروج، للهتاف، للرفض، لكنه لا يكفي في ذاته. فالنية الطيبة لا تعفي من المسؤولية، والاندفاع باسم الغيرة على الوطن قد يفضي إلى جرحه إن لم يُحكم بعقلٍ راشد. ليس كل من يصرخ صادقًا، وليس كل صادقٍ مصيبًا، لأن الصدق هو تطابق القول مع ما يعتقده صاحبه، لا مع ما تقتضيه المصلحة العامة أو سلامة المجتمع. هنا تظهر حدود الصدق عندما يُنزَع من سياق الحكمة.

كذلك، الحقيقة فهي ليست ملكًا لأحد. وليست ما يصرخ به الشارع ولا ما يُقال من على المنصة. إنها خلاصة الفهم الشامل، المتأني، المسؤول. الحقيقة لا تُقال تحت الضغط، ولا تُنتزع بالشتائم، ولا تُنشر عبر حسابات مجهولة على مواقع التواصل. الحقيقة تحتاج إلى عقلٍ يتسع، وإلى بيئةٍ تتيح الحوار، وإلى دولة تحمي نفسها من السقوط لا بالقوة، بل بالشرعية الأخلاقية والمعرفية.

في مثل هذه اللحظات الحرجة، لا بد أن ندرك أن الوطن هو بيتٌ مشترك، وذاكرة جمعية، ونظام قانوني، وكرامة جماعية. وحين يحتكر البعض الحديث باسمه، أو يختزل صورته في مطالب آنية، أو يشيطن مؤسساته، فإنهم، دون أن يشعروا، يسهمون في تقويضه.

إن الدولة، بكل مؤسساتها، ليست كيانًا متعالياً على الناس، لكنها أيضًا ليست ساحةً مفتوحة لكل من أراد أن يختبر صوته أو يُفرغ غضبه. الدولة تُسائل نفسها حين يلزم، لكنها مطالبة، في الوقت ذاته، أن تحمي بنيتها، وهيبتها، واستقرارها. وحين تفعل ذلك دون تعسّف، فهي لا تصادر حقًّا، بل تحمي حقَّ الجميع في العيش الآمن. فلا شيء يُربك المجتمعات كما يُربكها الفراغ الأمني، والانفلات الخطابي، والنفَس الفوضوي.

إننا اليوم أمام مشهدٍ يتطلب منا أن نرتقي جميعًا إلى مقام الحكمة: الدولة، حين تتّزن ولا تستجيب بالاندفاع، والمواطن، حين يُراجع نفسه ويتساءل: هل ما أفعله يبني؟ هل يحفظ؟ هل يحترم؟ الحكمة ليست خصمًا للغضب، بل طريقٌ لتحويل الغضب إلى مشروع، والهتاف إلى مضمون، والاختلاف إلى حوار. ففي الأردن، لطالما كان الأمن سياج الوطن، لا قيده. ووعي الأردنيين لطالما حافظ على الدولة من الوقوع في فخاخ الفوضى التي جرّت دولًا غيرنا إلى العدم. ما نحتاجه الآن ليس تقاذف الحقيقة، ولا سباقًا في الصدق، نحتاج تجسيدًا حقيقيًا للحكمة: أن نُدير مشاعرنا كما ندير مؤسساتنا، ألا نُفرّط بالوطن، ولا نُفرّغ نداءات الإصلاح من معناها. فالحقيقة بلا حكمة تصبح حادة وخطيرة، والصدق بلا حكمة يصبح وقودًا لخرابٍ لم يُردْه أصحابه، أما الحكمة فهي القيمة التي تعصم الصدق من الغرور، وتحرّر الحقيقة من الادّعاء، وتُبقي الوطن فوق الجميع، لأنه الشرط الأول لكل ما نريد أن نقوله أو نكونه.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :