تفكيك مفهوم الأمة يستدعي التحرر من الأطر الموروثة التي ترى فيها كيانًا حتميًا قائمًا على اللغة أو العرق أو الدين، ويستلزم، بدلًا من ذلك، العودة إلى بنيتها كتصور رمزي–سياسي يُنتج عبر التاريخ ويُعاد تشكيله وفق تحولات الوعي والجغرافيا والسلطة. فليست الأمة حقيقة طبيعية، إنّها بناءٌ سرديٌّ تراكمي، يتحوّل من خيال جماعي إلى جهاز تنظيمي للهوية والانتماء.
يُبنى مفهوم الأمة تقليديًا على ثلاثة أركان: وحدة اللغة، ووحدة الأرض، ووحدة التاريخ. غير أن هذه المقومات، وإن بدت للوهلة الأولى موضوعية، تتفكك عند التحليل النقدي. فاللغة لا تكون دائمًا رابطًا كافيًا، ولا الجغرافيا حاضنة كافية، ولا التاريخ سردية موحدة، إنها شبكة من التناقضات والمجابهات. الأمة، كما تتبدى في سياقاتها المختلفة، ليست معطى جاهزًا، بل مشروعًا أيديولوجيًا يتغذى على الحاجة إلى النظام، وعلى قلق الجماعة أمام التشظي.
في القراءة المرجعية، يظهر أن العروبة ـ كنموذج للأمة ـ لم تتأسس على نقاء إثني أو استمرارية بيولوجية، ولكن على تحوّل رمزي–ثقافي جعل من اللغة محورًا للانتماء، لا الدم. في هذا السياق، تنهار سردية الأصل الواحد، والجد المشترك، والميراث العرقي، تحت ثقل الوقائع التاريخية التي تكشف عن اختلاطات، وتبادلات، وتداخلات سكانية عميقة، تجاوزت حدود القبيلة والمجال الإثني إلى فضاءات الاختلاط الحضاري والتفاعل الرمزي. من هنا، لا يكون تعريف "الأمة" في الحالة العربية تعريفًا إثنيًا، بل رمزيًا قائمًا على اللغة والخيال الجمعي والذاكرة المشتركة.
ما يطرحه الواقع بوضوح هو أن مقومات نشوء الأمة في السياق العربي لم تكن ثابتة ولا متطابقة مع النموذج الأوروبي الحديث للأمة القومية. فلم تكن العروبة أمة عرقية بالمفهوم الألماني القائم على "Volk" أو الشعب الموحد بيولوجيًا، ولا أمة مدنية بالمفهوم الفرنسي (القائم على العقد السياسي والولاء للدولة)، وإنما قام على فضاء تراكمي تشكل بفعل التفاعل اللغوي–الثقافي، والمخيال الرمزي الذي صاغته اللغة والدين والتاريخ المشترك، لا سلالة الدم.
تحضر جدلية الإثنية هنا بوصفها أداة أيديولوجية، تُستخدم لإعادة ترتيب الجماعة حول مركز رمزي يُقصي الاختلاف، ويُنتج تصورات صلبة عن "النقاء" و"الصفاء"، لكنها، كما يك تفكيك مفهوم الأمة شف العمق التاريخي، لا تصمد أمام هذا النقد التاريخي ولا أمام واقع الهويات المركّبة. فالأمة لا تتكوّن من دماء متجانسة، بل من رموز مشتركة، ومن قدرة على تخييل الذات بوصفها تنتمي إلى سردية كبرى، حتى لو لم تكن هذه السردية نقية أو متماسكة.
إن الأمة، في ضوء هذا الفهم، تتجاوز الإثنية دون إنكارها، وإنما بتجاوزها إلى مستوى أعلى من التنظيم الرمزي، يجعل من اللغة والتاريخ والرموز المشتركة أدو تفكيك مفهوم الأمة ات لخلق الانتماء. وهي، بهذا، تصبح قابلـة للتعدد، ولا تستقيم إلا حين تُبنى على المشاركة في الحلم الجماعي، لا على التماثل الجيني. الأمة، حين تُفهم كفضاء رمزي، لا كحقيقة إثنية، تصبح انتماءً حرًا، مشروعًا ثقافيًا، فعلًا تاريخيًا في مواجهة الفناء، لا قيدًا يُفرض بالولادة.
إنّ الهوية القومية، إذًا، ليست قدرًا، فهي اختيار سردي يتجدد. وما يبقي الأمة حيّة قدرتها على إعادة إنتاج نفسها في المخيال واللغة والمشاركة الرمزية. الأمة ـ حين تُفهم بهذا العمق ـ تتحرر من الإقصاء، وتكفّ عن أن تكون مشروع تفوّق إثني، وتصبح، عوضًا عن ذلك، مشروعًا للتعدد والعيش المشترك ضمن بنية لغوية وثقافية حية.
في هذا المنظور، تنقلب جدلية الأمة من سؤال الأصل إلى سؤال المصير، ومن قيد الإثنية إلى أفق الذاكرة، ومن تمركز العرق إلى انفتاح اللغة، ليُعاد كتابتها لا بوصفها وراثة، بل فعلًا ثقافيًا مسؤولًا في الحاضر.