تُغرسُ الكلمةُ في أرضِ الوعيِ فتثمرُ وطنًا، وحينَ تَتَهَدَّدُ جذورهُ ريحُ الفوضى، لا يكونُ للحيادِ إلا وجهُ الجبنِ أو الجهلِ. الانتماءُ الحقيقيُّ يبدأُ بفعلِ المواجهةِ لا بلغةِ التبرير، لأن الوطنَ حينَ يكونُ هدفًا، تكونُ كلُّ المواربةِ خيانةً مقنعةً، وكلُّ ترددٍ صمتًا مجرمًا.
تَترسّخُ الدولةُ حينَ تتكاملُ فيها مؤسساتُها الأمنيةُ والعسكريةُ مع ضميرِ المواطن، فلا تبقى حراسةُ الوطنِ حكرًا على البندقيةِ، وإنما تمتدُّ إلى العقلِ والفكرةِ والكلمة. لا قيمةَ لأي خطابٍ إن لم يحمل وعيًا، ولا طمأنينةَ تُستمدُّ من الأمانِ الخارجيِّ إن لم يكن الداخلُ محصنًا بالمعرفةِ والمسؤوليةِ.
تنكشفُ الجماعاتُ الإرهابيةُ، مهما لبست من أقنعةٍ وطنيةٍ، حين تنفذ أجنداتٍ مشبوهة، مدعومةً من غرفِ تمويلٍ خارجيٍّ يطمح لتفكيكِ الدولةِ من الداخلِ، لا بآلةِ الحربِ، بل بفيروسِ الفتنةِ. هؤلاء لا يمثلون قضية، بل يمثلون كارثة، والردُّ عليهم لا يكونُ عاطفيًا، وإنما بالمنهجِ العلميِّ والوطنيِّ، الذي يرى أن محاربةَ الإرهابِ تبدأُ بتجفيفِ منابعهِ الثقافيةِ والفكريةِ، قبلَ معاقبةِ نتائجهِ الدموية.
يُصانُ الأردنُّ بالفعلِ لا بالتصفيق، وبالعملِ لا بالهتاف، وبالشراكةِ الفعليةِ بين المواطنِ والمؤسسةِ، لا بالتنصلِ والتواكل. لا مستقبلَ لدولةٍ تسمحُ للإرهابِ أن يجد لهُ موطئَ فكرٍ أو تبريرَ عاطفة. الإرهابُ لا مذهبَ له، ولا طائفة، ولا جهة، هو خيانةٌ صريحةٌ للهِ والوطنِ والعقلِ، ولا يُواجهُ إلا بمنظومةِ وعيٍ متكاملةٍ تبدأُ من البيتِ والمدرسةِ والجامعةِ، ولا تنتهي في ساحاتِ القتالِ وحدها.
تستحقُّ الأجهزةُ الأمنيةُ كلَّ التقديرِ لأنها تحاربُ الإرهابَ بوعيٍ استخباريٍّ متطورٍ، وبكفاءةٍ تنسجُ الأمانَ في لحظةِ غفلةِ الناس. إن الأمانُ يُصنعُ بجبهةٍ داخليةٍ موحدة، تعي حجمَ التهديداتِ ولا تستهينُ بها، تلتفُّ حولَ القيادةِ باعتبارها ضميرًا سياسيًا يقودُ سفينةً وسطَ العواصف. يتجددُ الإيمانُ بالوطنِ حين يصبحُ الدفاعُ عنهُ موقفًا يوميًا، وحين لا يُغري المالُ المشبوهُ العقولَ المريضةَ، وحين يصبحُ الوعيُ العامُّ أداةَ كشفٍ للمؤامراتِ. هذه ليست حربًا على أفرادٍ، بل على فكرةٍ، والردُّ على الفكرةِ يكونُ بإنتاجِ خطابٍ ثقافيٍّ متماسكٍ، لا يساوي بين الضحيةِ والجلاد، ولا يغلفُ القتلَ برداءِ المقاومة.
يبدأُ الإصلاحُ حين نُقصي الإرهابَ من منصاتِنا، من مجالسِنا، من تبريراتِنا الباهتةِ، ونضعُ كلَّ من يحاولُ تقويضَ أمنِ الوطنِ تحتَ مجهرِ القانونِ والوعي. لا حيادَ مع من يستهدفُ الدولةَ، ولا شفقةَ على من يستهدف أبناءها.
وسيبقى الأردنُ بحولِ الله عصيًّا على من يريدُ به سوءًا، لأن مناعتهُ من وعيِ أبنائه، ومن تاريخهِ الذي ما لانَ يومًا أمامَ التهديدات، ومن قيادتهِ التي تقرأُ القادمَ بعينِ الحكمةِ لا بردودِ الأفعالِ المتسرعة. هذا الوطنُ الذي وُلد من رحمِ التحدي، لن يُثنيهِ دخيلٌ، ولن تنكسر لهُ إرادةٌ ما دام فينا قلبٌ ينبضُ للأردنِ قبلَ اسمهِ، ولترابهِ قبلَ أرصدتهِ.
تُراكمُ الدولةُ قيمَ الصمودِ عندما يتحولُ حبُّ الوطنِ من شعارٍ عاطفيٍّ إلى التزامٍ عمليٍّ، حين يصبحُ الدفاعُ عن الأردنِ مسؤوليةَ الفكرِ، والثقافةِ، والإعلامِ، والتربيةِ. فلا مكانَ بعدَ اليومِ لتلك المساحاتِ الرماديةِ التي تسمحُ بالتشكيكِ في نوايا الأجهزةِ الأمنية، أو تفتحُ النوافذَ للمبرراتِ الواهيةِ التي تحاولُ تجميلَ العنفِ والإرهابِ تحتَ عباءاتٍ فكريةٍ مغشوشة.
ينكشفُ زيفُ الشعاراتِ حين يُختبرُ الولاء، والوطنُ لا يقبلُ سوى من يثبتُ في الميدانِ كما في الكلمةِ، في السلوكِ كما في الصوت. لا نريدُ خطابًا يتغنى بالأردنِ صباحًا، ويبررُ خيانتهُ مساءً، نريدُ جيلًا يرى أن الوطنَ مشروعُ وجودٍ لا يقبلُ الانقسامَ ولا التردد.
تُبنى المجتمعاتُ الحصينةُ بالعدالةِ والشفافيةِ والتعليمِ والفكرِ الحر، وتتحصنُ بالمعلومةِ الصحيحةِ لا بالهمسِ المضللِ، وبالنقدِ البناءِ لا التحريضِ المقنعِ. لهذا فإن المعركةَ ضدَّ الإرهابِ معركةَ سلاحٍ، ومعركةُ مناهجٍ وأفكارٍ ومواقف، تبدأُ من مقعدِ المدرسةِ وتنتهي في منابرِ الإعلامِ وصالاتِ القرار.
يختبرنا الوطنُ اليومَ كما لم يختبرنا من قبل، ويطلبُ منا أن نرتقي في فهمِنا لهُ، ألا نختصرهُ بالحدودِ أو الحكومة، بل أن نراهُ كقيمةٍ عليا تُقدَّمُ على كلِّ المصالحِ الضيقةِ والانتماءاتِ المريضة. من أرادَ إصلاحًا فليأتِ عبرَ بواباتِ القانونِ لا عبرَ أنفاقِ العنف، ومن أرادَ نصرةً فليكن في العلنِ لا في العتمة.
وإننا، أمامَ هذه المرحلةِ الحساسةِ، مطالبون أكثر من أي وقتٍ مضى، أن نعيدَ تعريفَ الوطنِ في ضميرِنا، كمكانٍ نعيشُ فيه، وهويةٍ نُدافعُ عنها، وعقدٍ اجتماعيٍّ يحمي الجميعَ ويجمع الجميعَ على ثوابتِ الأمنِ، والاستقرارِ والنهضةِ والتقدم. هذا هو الأردنُّ الذي نريد، وهذه هي الدولةُ التي سنحميها بكلِّ ما نملك، وبحبٍّ واعٍ وشراكةٍ مسؤولة.