الثقافة المؤسسية: الروح الخفية وراء نجاح المؤسسات
د. صالح سليم الحموري
16-04-2025 01:32 PM
هناك ما هو أعمق من الهيكل التنظيمي في أي مؤسسة، وأقوى من الأنظمة والتعليمات التي يضعها أصحاب القرار، وأكثر تأثيرًا من الخطط والاستراتيجيات التي تُستهلك شهورًا في إعدادها.
إنه ذلك النسيج الخفي الذي يربط الموظف بمؤسسته، ويشكّل الجسر بين السلوك الفردي والمصلحة الجماعية، وبين القرار المكتوب والواقع المعاش. إنه ببساطة ما يُعرف بـ الثقافة المؤسسية.
ليست الثقافة المؤسسية شعارًا يُرفع، ولا ملصقًا على الحائط، ولا بيانًا يُتلى في اللقاءات السنوية. إنها الواقع اليومي الذي يعيشه الموظفون، والطريقة التي يُدار بها الخلاف، ويُحتفى فيها بالنجاح، وتُستقبل بها المبادرات. هي نبرة الحديث في الاجتماعات، سواء جاءت من المدير أو دارت بين أعضاء الفريق.
هي مستوى الاحترام في التعامل، داخل المؤسسة ومع المراجعين على حدٍّ سواء.
وهي أيضًا ردود الفعل عند الوقوع في الخطأ: هل يكون الخطأ فرصة للتعلم، أم ذريعة للوم والتوبيخ؟
في بعض المؤسسات، تشعر أن كل شيء يعمل بانسجام حتى دون تعليمات واضحة. وفي مؤسسات أخرى، تُطبّق الإجراءات بدقة، ولكن الروح غائبة، والحماس منخفض، والتعاون هش.
الفارق لا يعود إلى الموارد، بل إلى الثقافة.
وهنا لا بد من التوقف عند أثر الثقافة في الأداء المؤسسي. الثقافة ليست مجرد انعكاس للمزاج العام داخل المؤسسة، بل هي المحرّك الخفي لجودة الأداء، واستدامة النتائج، واستقرار الفرق. فعندما تسود ثقافة تقوم على الثقة، والانفتاح، والتشجيع على المبادرة، فإن الموظفين يقدمون أفضل ما لديهم، ليس بدافع الواجب فقط، بل بشعور بالانتماء والمشاركة.
الثقافة الإيجابية تقلل من الصراعات، وتعزز روح الفريق، وتزيد من قدرة المؤسسة على التكيف مع التغيرات. بينما تؤدي الثقافة السلبية إلى انتشار الصمت، وتراجع الحافزية، وهروب الكفاءات.
إن الثقافة القوية تصنع مؤسسات قوية، لأنها تخلق بيئة يكون فيها الأداء العالي هو القاعدة، لا الاستثناء.
ولعل أبرز ما يميز المؤسسات الناجحة أنها تدرك أن الثقافة ليست عنصرًا ثانويًا، بل هي البنية التحتية النفسية والمعنوية التي يقوم عليها الأداء. إذن، "الثقافة المؤسسية" هي التي تُوجّه "السلوك" عندما لا يكون هناك من يراقب، وهي التي تخلق "الولاء" حتى في غياب الحوافز المباشرة.
وفي هذا السياق، يقول المفكر الإداري الشهير بيتر دراكر: "الثقافة تأكل الاستراتيجية على الإفطار." في إشارة إلى أن أقوى الخطط الاستراتيجية ستفشل إن لم تكن مدعومة بثقافة مؤسسية صحية وفاعلة.
غير أن بناء هذه الثقافة لا يتحقق بإصدار قرار، بل يتطلب نموذجًا قياديًا ملهمًا، والتزامًا طويل الأمد، وتطابقًا بين القول والفعل.
يبدأ التغيير الثقافي الحقيقي عندما يقرر القادة أن يكونوا قدوة، لا مراقبين؛ ملهمين، لا منفذين؛ بُناة للثقة، لا أسرى المناصب ومغريات السلطة.
في النهاية، الثقافة المؤسسية ليست كل شيء، لكنها بكل تأكيد هي ما يحدد كيف يتم كل شيء.