ويعلو بك صدح المكان يماماً تاق إلى رائحة الطين والخلق الأول.. ويوقظ ذكريات تتجمهر جذلة على المدى المترامي فوق السماء العمانية.. تأخذك فيها قصة البدايات.
ومفردات قواميس الأزمنة التي سلّمت نفسها سنامَ المجدِ.. لتهيم عشقاً في بوح القطا والسنونو وعن امتشاق القلعة تلاوين المواسم وبهاءها.. فجالت بنبوءاتها وتعاويذها قروناً تتقلب الحضارات واللغات والشعوب كما الحجيج على عتباتها. ويعلو بك صدح المكان يمامًا تاق إلى رائحة الحقول الظامئة، إلى أول رعشة تراب حين مسّه مطر، وإلى خفق الجبل وهو يُصغي إلى نبض من عبروا هنا. في عمّان، يتكئ الحجر على ظلّ القصائد التي كُتبت بمداد الحنين، وتُروى من سِفر المدن الأولى، حيث كانت الأرواح تُصقل في محبرة الصبر، وتُختبر على سفوح العناد، وتتهجّى أسماءها من بريق الطلع في كروم التلال.
في الأزقّة التي تتعرّج كدعاء قديم، يمشي الزمن حافيًا، يطرق أبواب البيوت التي حفظت وجوه الجدّات مثل تراتيل، ويترك على الجدران بصمات القصص التي لم تُروَ بعد، لكنها تسكن المدى. في عمّان، تشتعل الشرفات كل صباح بنداء الغيم، وتفتح النوافذ أعينها على ذاكرة لا تكلّ، متماسكة كأنها طينٌ لم يجفّ بعد، يرسم ملامح من سكنوا القلوب قبل أن يسكنوا البيوت.
تهوي الشمس على الكتفين العاريين للجبل، فتوقظ حجارة كانت تحفظ في تجاويفها رجع صوت مؤذن أول، وأنين شاعر فقد وطنه ووجده بين أضلعه. هناك، في تلافيف الأحياء القديمة، تتشابك الأرواح كأغصان عنب قديم، تعرّش على الحيطان وتحكي سراً لا يفهمه إلا من نام على صوت الحكواتي وتوسّد حلمه.
عمّان لا تحتاج إلى بحر، فهي تجيد الغرق في تفاصيلها، وتبرع في اجتراح المرافئ من قهوة تُصبّ على مهل، ومن حجر يعرف أن للخطى طقسًا، وللشوق قبلة تودّع المسافات. تتكئ المدينة على انحداراتها، تُربّت على كتف العابر وتمنحه لياقة الحنين، وتقول له: لا تستعجل، فالذاكرة تسير على مهل، والوجدان لا يحب العجلة.
تتقلب الحضارات كما تتقلب الريح على الجبل، وتبقى عمّان سيدة السكون والضجيج، فيها ما يُشبه الصلاة التي لا صوت فيها لكنها تبلغ السماء. تعانق اللغة فيها طين الجغرافيا، وتتحول المفردة إلى ركن في الدار، إلى غصن في حديقة، إلى شقّ ضوءٍ في قلب الصخر. لا تنقضي فيها الحكاية، تُورّث، وتنبت كل جيل في ملامح الجيل الذي قبله، كأنها تقول: أنا المدينة التي لا تنسى، وإن تناساها الزمان.
وتزداد الصورة اكتمالًا كلما امتدت النظرة نحو قلب عمّان النابض، حيث تتناغم أرصفة المدينة مع خُطى أهلها، وتتهجّى الجدران أسماء العابرين كأنها قصائد مكتوبة بالدفء والرضا. في تلك المساحات التي يتقاطع فيها الزمن مع الرؤية، تتواشج الأرواح والوجوه والأمكنة في نسيج واحد، وتُعيد المدينة ترتيب حكاياتها، كما أرادها العاشقون: أكثر حياةً، أكثر شغفًا، أكثر امتلاءً بالدهشة التي لا تنضب.
هنا، تتعانق الأزمنة كما تتعانق الضلوع في لحظة اشتياق. فذاك المدرج الروماني، كأنه ما زال يُصغي إلى تصفيق الزمن، والجامع الحسيني ما زال يرفع التكبير على مقام الروح، وسبيل الحوريات تُنشد الماءَ كأنه دعاءٌ قديم. كأن كل حجر في هذه المدينة يحمل في شقوقه همس قرنٍ مضى، وكل شرفة تهدهد ذاكرة تسكن بين عينيها شموس الأجداد.
تتسلّل الثقافة في عمّان كما تتسلّل رائحة القهوة من شبابيك البيوت، تخرج من رفوف الكتب في وسط البلد، ومن عيون الشعراء الجالسين على المقاعد الخشبية، يكتبون عمّان بما خُطّ على القلب. فلا غرابة أن تكون هذه المدينة دفاتر العشاق والمفكرين، تتسع لخطايا الوجد، وتغفر للحنين زلاته، وتُمهّد للغد طريقًا من نور ووجدان.
وفي فضاءاتها، لا تغيب السياسة عن الحضور، تُحاور، تعبر الأزقة في هدوء، تلبس وجه الجد الحكيم، وتحمل على كتفيها مسؤولية الوطن. بين مقهى يتداول فيه الكهول أحاديث الماضي، وصوت شاب يهتف بأحلام جديدة، تُبقي عمّان للناس حقّ الحلم، وللأمل ساحة لا تُغلق أبوابها.
أما جبالها، تلك التي ترتفع كدعاءٍ نقي، فهي لا تكتفي بالمشهد، ولكنها تكتبه. تتوضأ كل صباح بندى اللوز، وتكتم في ترابها بشارات لا يفكّ أسرارها إلا من عرف كيف يُنصت لصوت المدينة حين يهمس. فعمّان، في صمتها العميق، تقول الكثير، وتمنحك أكثر مما تعِد، كأنها الأم التي يكفيك دفء حضنها لتطمئن أن العالم ما زال بخير.