facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




عين غزال ذاكرة ومكان


أ.د سلطان المعاني
19-04-2025 11:02 AM

في أول الضوء، حين كان الغيم يتلمّس خطاه على جبين الأرض، نهضت عين غزال كأنها نغمة في وتر الخلق، تخرج من صمت الأزمنة لتروي، لا لتُحكى، وتنسج من الطين نبضًا خافتًا يتعالى كلما أنصت التاريخ لما تناثر من شذرات الحضور، وما تهادى من ملامح الفكرة وهي تخطو خطواتها الأولى في مهبّ الزمن. بين أديم الأرض وعرَق السواعد، تكشّف المعنى دون أن يُستدعى، وانداحت الحكاية من مسام المكان، تشي بالمبتدأ قبل أن يكون للخبر أثر.

حين يلوح الأفق بلون الصوان، وتبدأ النبضات الأولى في ارتجاف العشب، تتكشّف الأسرار في دفء البيوت التي اختارت أن تتشكّل على هيئة الحياة لا على هندسة الغريزة. كانت الجدران تنمو كما ينمو الإيقاع، تطاول الشمس، وتحتضن القمر، وتمدّ كفّها لتمسح وجه الغد المتقلب في مرايا الإنسان الأول. هناك حيث لا سؤال سوى الوجود، كانت المناجل تُصقل من حواف الحلم، والماء يُرتل أناشيد الجذور، والطريدة تتحول إلى رمز ينام في ضمير الحكاية لا في فم الجوع.

من عتمة العصور المترجرجة بالاحتمال، ومن فجوات التاريخ المترددة في التصديق، جاءت عين غزال لتُلهِم، ولتلمح. لحظةٌ واحدة تكفي لتنعطف الذاكرة نحو معنى جديد في سردية الإنسان، حيث ارتعشت اليد ذات دهشة وهي تغرس بذرة في الأرض. من هنا انبثق الوعي من الخاصرة، وارتفعت الإنسانية درجةً في سلّم الإدراك، تُودِّعُ صُدفة الطرائد، وتستقبل قصيدة الزرع.

جاءت الزراعة فعلاً، ونبوءة، ومساءلة للوجود بلغة النبات. في تلك اللحظة التي أمسكت فيها الأنثى ببذرة الحياة، كانت تدوّن على جسد العالم توقيع الأنوثة الأول: الرعاية، والوفرة، والتدبير. هناك عند الحواف القصية لذاكرة الإنسان، لاحت المرأة كأمّ للحصاد، ومُلهِمة للعقل، ومؤسسة لمعمار الغد. فغدت الحياة شراكة في القوت، وفي تأويل خلّاق للعوز، وتحويل للاحتياج من رد فعل إلى مشروع بقاء، ومن نزوة إلى نظام.

وإذا ما استقرّ الزمان في تضاريس المكان، تشكّل الأثر في هيئات لا يشبهها غير الحنين: حوائط تستطيل بحجم الذاكرة، وساحات تفوح منها رائحة الجماعة، وزوايا تتسع كما تتسع نبرة الجدّ في قصة المساء. هناك، حيث المعاول حفرت في الأرض، وفي صخر النسيان، ولملمت ما نثرته القرون من أنفاس العابرين، صار المسير نحو المجد بحاجة إلى التوثيق، وإلى التأمل في هذا التجلّي الصارخ على هيئة قرية، اسمها لا يُنطق، بل يُحسّ.

عين غزال، وما بين العين والقلب إلا خفقة، تبوح بما لم يُقل، وتزرع فينا يقين البداية، كمجرة تفتّقت منها كل الأسئلة، وكل الإجابات. ففي حفيف الزرع، ووهج الصوان، وخشوع السطوح المستطيلة، ما يشفّ عن وعي لم نكن نحسبه، وعن ارتقاء لم نستعد له، لكننا وُلدنا منه، حين اختارت الأرض أن تنبض بنا، لا فوقنا.

في قلب الشرق، هناك حيث تُكتب البدايات على لُدن التراب، تتهادى عين غزال كأولى النبضات في معزوفة الإنسان، لا تبوح باسمها إلا لِمَن أصغى بصدق إلى وشوشة التاريخ وهو يعجن الطين بالحلم، ويصوغ من الفجر معولاً ومن الصوان مئذنة الوعي. عين غزال موقع له خارطة وتاريخ، وعنوان لفكرة السكن، ولفعل الزراعة، ولتجربة الخلق الثانية؛ حين أصبحت الحياة مشروعًا معرفيًا وحسّيًا، تواطأت فيه الغرائز مع الروح لتكتب أول الحكاية.

من عمق الزمان، تتسلل ملامح الذين مرّوا، أولئك الذين صاغوا البيت من استدارة القلب، وعدّلوا الجدران لتتّسع للألفة. هناك، بين زواياها، حيث التماثيل تتكوّن للتحديق في الذات، وتتجلى الرموز كأنها اللغة الأولى قبل أن نتعلم الحروف. كانت الدهشة مادة البناء، وكانت الأيدي التي تشكّل الجصّ تعرف أن الفن بوح الوجود حين يجد في الجماد شبيه الروح.

في عين غزال، تُقاس الأهمية بما تكشّف من مكنونات العقل البشري في لحظات نادرة. من التمثال إلى الرمز، ومن الطقس إلى المعنى، ظهرت نُسخ أولى من الإنسان وهو يصوغ قداسته، ويتلمّس طريقه في المتاهة الكبرى. كيف تشكّلت تلك الرموز؟ كيف انبثقت الجماجم الجصّيّة لتعيد تشكيل الغائب في حضرة الجماعة؟ إنها تماثيل شكلت مرآة للقلق، وللأمل، وللحاجة إلى المعنى في كونٍ كان لا يزال يتأرجح بين الفوضى والنظام.

ومن وهج الفكر، انتقل الإنسان هناك من عابرٍ فوق الجغرافيا إلى ساكن في وجدانها، حتى لتبدو عين غزال أكثر من مكان: إنها تمثيل مادي لنقطة التحول الحاسمة في مسيرة البشر، من الغريزة إلى المعرفة، من الالتقاط إلى التخطيط، من اللحظة إلى الزمن. كان غياب المطر عثرة دافعًا لنحت قنوات الإرادة، ولم يكن غياب الأدوات سوى مبررٍ لاختراعها. وهكذا، كبر المكان بإصرار الإنسان على أن يكون فيها أثره أقوى من الريح.

تفتح عين غزال دفاترها كمن يقرأ في الحجارة فصولًا عن الزراعة، وتدجين الحيوان، وتحولات البيت من دائري يحتضن اللحظة إلى مستطيل يستوعب التمدد والزمن والتراكم. وفي هذا التحول، تتجلى السيرة الإنسانية، بوصفها صراعًا من أجل البقاء، وطقسًا مستمرًا من السعي للمعنى، للدفء، وللبقاء الذي يترك خلفه ما يُروى. هي شاهدة، على من مرّ، وعلى من آمن بأن البذرة وعدٌ دائمٌ بمستقبل يستحق أن يُعاش.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :